ارتفعت مؤخراً حدة عدم الثقة بالطبقات الحاكمة السياسية والمالية في العديد من الدول لتدفع بشخصيات مجهولة، بل ومشكوك في قدراتها السياسية، لتصعد الى كراسي الحكم في الكثير من الدول التي يتم تداول السلطة فيها. وكان آخرها فوز الممثل الكوميدي الأوكراني، فلوديمير زيلنسكي، بالرئاسة في بلده بنسبة عالية من الأصوات. إذ إن زيلنسكي لم يتولَّ أي منصب سياسي في حياته، وكل مؤهلاته أنه ممثل كوميدي معروف نجح في تمثيله دور رئيس يحارب الفساد في مسلسل بدأ منذ عام 2015م، ولازال ناجحاً وشعبياً حتى الآن. ولم يتوقع المراقبون السياسيون فوزه بالرئاسة الى أن فاجأ الناخبون الأوكرانيون الجميع بالتصويت له بغالبية عالية.
ومن بعض الجوانب يمثل نجاح زيلنسكي بالرئاسة الأوكرانية، فوز عدد من السياسيين في أوربا وأميركا بمناصب سياسية مستغلين أجواء (الشعبوية) السائدة على المناخ السياسي في بلدانهم. وتجربة دونالد ترمب، الذي فاز بالرئاسة في أميركا وسط شك كبير في نجاحه، دليل على كيف يمكن لشخص يعتقد أن لا حظَّ له بالنجاح سياسياً أن يخيب تنبؤات المراقبين والمحللين، وكدليل فإن ترمب استخدم كل أسلوب سيىء يمكن أن يؤدي الى فقدانه تأييد الناخبين ابتداءً من وقوفه متباهياً أمام الاعلاميين في الشارع الخامس بنيويورك، حيث يقع مبناه (أبراج ترمب) ليقول إنه يمكنه أن يحمل مسدساً ويقتل أي شخص ولن يعاقبه الناخبون على ذلك، أو أن يتباهى بتحرشه بالسيدات في حديث مسجل، بدون أن يؤدي ذلك الى خسارته أي نقاط لدى ناخبيه. وينطبق نفس الأمر فيما يتعلق بسياسيين آخرين في أوربا.
إلا أن الملاحظ أن دونالد ترمب، بالرغم عن أنه لم يكن يمثل الحزب الجمهوري في بداية حملته بل قام بفرض نفسه على الحزب للاستفادة من الآلة الانتخابية له، فإنه صعد الى الرئاسة ومعه مجموعة كبيرة من المنتفعين بموقعه ممن يحملون أجندات وبرامج تهدف الى تغيير وجه العمل الحكومي في أميركا. حيث استفاد اليمين المتشدد من صعود ترمب وأسلوبه العنيف في مواجهة الآخرين بتمرير قوانين وأنظمة وتعيين أشخاص في مراكز حساسة في القضاء أو الإدارة بما في ذلك أجهزة المخابرات المختلفة. مما أصبح يهدد النظام القائم ويمهد لإسقاطه وتغييره. مما جعل هذا (النظام القائم) أو (الدولة العميقة) يشن حملة مضادة على البيت الأبيض تستخدم فيها كل الأدوات المتوفرة للنظام القائم بما فيها وسائل الإعلام الرئيسية، لتشويه ما يقوم به الرئيس الأميركي، والتقليل من إنجازاته بما في ذلك الاقتصاد الذي تحسَّن في عهده، بل ودفع الديمقراطيين الشباب الذين تم انتخابهم مؤخراً لعضوية مجلس النواب الأميركي الى تبني أفكار يسارية متطرفة شملت الدعوة الى تغيير النظام الاقتصادي عبر تطبيق الاشتراكية اعتقاداً منهم أن دعوتهم هذه قد تؤدي الى تأييد الناخبين لتوجهاتهم.
وهناك في أوربا وأميركا اللاتينية تطورات سياسية تشير الى حدوث تحول سياسي يتجه حتى الآن الى شعبوية يمينية، حيث ينتصر فيها اليمين المتشدد الذي يبني سياساته على مشاعر الناس المضطربة نتيجة للأوضاع الاقتصادية التي يمرون بها، فتراه يهاجم الأجانب والمهاجرين والأقليات، ويسعى الى إثارة المشاعر القومية الضيقة، ويدعو للانسحاب من التجمعات الاقتصادية والعسكرية، والاستقلال عن كل هذه التجمعات. كما هو الحال في بريطانيا الراغبة في الخروج من الاتحاد الأوربي أو تلك الدعوات الأميركية للانسحاب من حلف الناتو.
ولا شك أن هذه التطورات الشعبوية سوف تنعكس بشكل سيىء على علاقات هذه الدول بالعالم الخارجي وستؤدي إن عاجلاً أو آجلاً الى تنامي قوة المشاعر القومية والانعزاليه في كثير من دول العالم الثالث مما سيزيد احتمالات الحروب والمناوشات فيما بين أكثر من دولة وأخرى. وليس من الواضح حتى الآن فيما إذا كان ما يجري أمراً عابراً أم أنه يؤسس لتحول جديد في العلاقات الدولية وفترة صراعات قادمة. وهذا يتطلب استعداداً لمثل هذه الاحتمالات من قبل الدول خاصة في منطقة الشرق الأوسط الملتهبة دائماً.