وجدتُ نفسي مُؤخَّراً في خضم تجربة مختلفة، قد لا يعيشها الإنسان إلا مرة، إن كان محظوظاً؛ تجربة مع المكان، مع التاريخ، مع الحضارة، ومع الإنسان الذي يمكن -إن أراد- أن يجعل لتاريخه وتراثه وثقافته قيمة حقيقية ومعنى ملموساً في حاضره.
دعاني عدد من الأصدقاء للمشاركة في مهرجان ألتامورا الثقافي (فردريكوس). وألتامورا مدينة صغيرة في محافظة باري جنوب إيطاليا، وكانت قبل العام ٢٠١٢ مدينة مجهولة ربما، رغم تاريخها المليء بالقصص المثيرة. ويعد الإمبراطور الروماني فردريك الثاني المؤسس الحقيقي لألتامورا الحالية بداية القرن الثالث عشر الميلادي، رغم أن المدينة تعود في تاريخها للعصر البرونزي، وجزء من جدارها القديم لا يزال قائماً، كما وجد فيها علماء الآركيولوجي أحافير وبقايا إنسان يُظن أن عمره مئة وثلاثين ألف سنة تقريباً، (اسمه العلمي: رجل ألتامورا). كان لفرديرك الثاني نزعات تحررية معارضة للكنيسة وبابا الفاتيكان، ما جعله عرضةً للنقد والهجوم أحياناً.. لكن هذا لم يمنعه من الحكم وصنع التاريخ.
من هنا قررت منظمة محلية في المدينة استغلال البعد التاريخي والتنوع الثقافي والإثني للمدينة لتنظيم مهرجان ثقافي من نوعٍ خاص؛ حيث تُمثِّل الإجازة الأسبوعية الأخيرة في شهر أبريل آلة الزمن لأهل المدينة، تأخذهم خلال نومهم، ليجدوا أنفسهم في العصور الوسطى حين يستيقظون.
يقول جيوفاني فراتسكو أحد المنظمين الفاعلين: «المهرجان فرصتنا الذهبية لنري العالم تاريخنا الثري بقِيَم العمل، بالإنجاز والإحساس بالمسؤولية، بالتعددية وقبول الآخر. من هنا يتطوَّع أكثر من ألف وخمسمائة مشارك من أهالي المدينة -رجالاً ونساءً وأطفالاً- لإحياء المهرجان»، ويضيف ألساندرو مارتللو: «أصبحت المدينة بفضل هذا المهرجان مزاراً سنوياً وموعداً لأكثر من نصف مليون زائر في ثلاثة أيام، يأتون من كافة أنحاء إيطاليا وأوروبا لمشاهدة العروض المتنوعة والفعاليات المختلفة التي تستمر من الصباح حتى منتصف الليل».
تشمل الفعاليات مسيرات عسكرية ومدنية، عروضاً ثقافية متنوعة، معارض فنية عن المدينة وأهم محطاتها التاريخية، حفلات غناء ورقص فلكلورية، محاضرات وندوات مصممة برشاقة لتناسب الحدث، ومتاحف مبثوثة في كل ركنٍ تتناول جوانب وتخصصات مختلفة.
يقول نيكولا فراتسكو -وهو بروفيسور في الرياضيات- عن طبيعة تنظيم المدينة: «اعتمد المهرجان على فكرة فردريك الثاني الذي لاحظ التنوع العرقي فيها، فجعل منها نموذجاً للتعايش.. حين تسير في المهرجان -يكمل نيكولا- تجد أن المدينة مُقسَّمة إلى أربعةِ أرباع، وفقاً للنموذج الفردركي في ذلك الزمن: جزء لاتيني، وآخر إغريقي، وجزء لحي المسلمين، وآخر لليهود. وفي كل حي تجد أن المكان مصبوغ بصبغة أهله». وهذا ما كان، ففي حي المسلمين مثلاً تجد الجميع يرتدي ملابس مُلوَّنة تنتمي لأهل المكان، وتجد النساء يرتدين الحجاب، والرجال بلحاهم وملابسهم الملونة وسيوفهم العربية، كما يصلك عبق الأكل العربي، وتطربك موسيقى الفن العربي القديم، والعروض الراقصة، وهكذا في كل حي، يحرص أهاليه على تصوير عالمهم -في العصر الوسيط- بكل تفاصيله: تصميم البيوت وتأثيثها، ملابسهم وملابس أبنائهم، وجبات المطاعم وطريقة تقديم الوجبات للزوار، الأسواق ومناطق التمريض وأماكن التعليم واللهو، وغير ذلك من تفاصيل دقيقة جداً.
كانت ألتامورا مدينة لها وجود في تاريخ إيطاليا.. لكن أهالي ألتامورا وشبابها أرادوا لهذا التاريخ أن يكون جسرهم الذي يجعل لهم ولمدينتهم وجوداً في الحاضر يستحق الذكر، فكان هذا المهرجان طريقتهم لفعل ذلك.. وحين صعدتُ على مسرح الحفل الختامي.. قلت لأهالي المدينة وزوارها: «لقد علّمتني ألتامورا درساً لن أنساه: بالعمل.. هناك دوماً أمل.. فورزا ألتامورااااا».