لم يحسم السودان ولا الجزائر أمرهما فيما يتعلق بشكل النظام الجديد الذي يرغب كل منهما إقامته، وهذا شيء متوقع وعادي، لأن الثورتين الشعبيتين اللتين قامتا في كلا البلدين لم تكن لأي منهما قيادة توحد الجهود ولا كانت للثائرين رؤية مفصلة لنظام الحكم الجديد الذي يرغبون في إقامته. وإن كانت الفكرة الرئيسية هي إسقاط النظام القائم وإحلال حكم مدني بأدوات ديمقراطية. ولازال الجدل قائماً فيما بين من بقى في السلطة ويمسك ببعض زمام الأمور والقيادات الشابة التي تطمع في تحقيق النموذج الأفضل الذي تراه لجماهيرها. والملاحظ أن القوى الأجنبية التي كانت تستفيد من النظام السابق تضررت كثيراً من حركة الثوار ولوحظ محاولة أطراف متعددة التأثير على مجريات الأحداث.
وحركة الإخوان المسلمين أول المتضررين من أحداث الثورة، بل واجهت قناة الجزيرة القطرية التي تحاول توجيه الأحداث لصالح الحركة، خاصة في السودان، رفضاً شعبياً لها ومقاطعة لمراسليها، وتراقب تركيا التي استأجرت سابقاً جزيرة سواكن السودانية والتي ترعى حركة الإخوان المسلمين، الوضع بقلق شديد. وازداد القلق التركي نتيجة لأحداث ليبيا الأخيرة أيضاً حيث تتقدم قوات حفتر الى العاصمة الليبية في مواجهة مقاومة ضعيفة من الإخوان المسلمين واحتمالات متزايدة بسقوط حكومة السراج القائمة هناك التي يتبناها الإخوان المسلمون.
ومن المتوقع بروز قيادات جديدة من بين صفوف الثوار يمكن للثائرين أن يلتفوا حولها وأن تنجح في تنظيم صفوفهم وتحرم المندسين والمخربين من دفع الجزائر أو السودان الى نفس ما وصلت إليه ليبيا من انهيار وانقسام. ولا يمكن أن تتماسك البلاد بدون أن يكون هناك دور فاعل وقويُّ للقوات المسلحة وبصرف النظر عما يثيره البعض من شكوك حول القوات المسلحة الجزائرية أو السودانية إلا أن الحقيقة هي أنه لا يمكن لأي كيان جديد أن يحافظ على الاستقرار ويتيح للثوار أن يعيدوا بناء البلاد بالشكل الذي يرتضونه بدون رجال القوات المسلحة الذين هم جزء من الشعب وليسوا جيش احتلال من الخارج، ولا مليشيات تابعة لحزب مثل حركة الإخوان المسلمين أو غيرهم.
وإن كان لابد وأن يقبل الجيش بأن يكون الشعب مرجعه، لا أن تكون القيادات العسكرية هي مرجع الشعب. وأن يقبل العسكريون بدور مساند للحركة الشعبية وللجماهير الثائرة وأن تتم الأمور بالتوافق ووضع أسس تصالحية وسطية يقبل بها الطرفان المدنيون والعسكر يكون فيها المدنيون هم الحاكمون ويكون العسكر السند القوي الموالي لهم. وفي اتفاق مثل هذا مصلحة للطرفين ومكسب للوطن.
من حسن الحظ أن الجزائر والسودان شهدتا ثورة سلمية معتدلة، ولم تسقط البلاد في فوضى. ومن المتوقع أن تتطور الأحوال تدريجياً للوصول الى حلول ونظام حكم تتحقق به مصلحة الثورة في ظل استقرار يحرم تجار الحروب من السعي لتخريب أي من البلدين الثائرين. وسيتطلب الأمر ترتيبات يتفق عليها للمناطق التي تسعى للانفصال أو تبحث عن حكم ذاتي. وهناك كفاءات في البلدين يمكن الاستعانة بها والخروج بالتطور المطلوب، بدون الحاجة الى تدخلات خارجية أكان من أوربا أو أميركا أو روسيا.. وبدون الاستعانة بأشخاص موالين لقوى إقليمية مثل إيران وتركيا لتحديد الشكل القادم للحكم.
والملاحظ أن صعود دونالد ترمب لرئاسة أميركا أدى الى ابتعاد الأميركيين عن التدخل المكثف فيما يحدث في البلدين العربيين الثائرين، كما كانوا يفعلون مع حركات (الربيع) التي تبنوها ودفعت أوباما للاتصال بالرئيس المصري حينها، حسني مبارك، طالباً منه الاستقالة، والنشاط الذي أبدته الحركات (المدنية) الأميركية والأوربية لصالح الإخوان المسلمين ثم تدخل القوات المسلحة لحلف الناتو بقيادة أميركية من الخلف لإسقاط معمر القذافي ونظام حكمه السيىء .. وقد أدى عدم التدخل الأميركي الأوربي (كما هو ظاهر حتى الآن) الى مسيرة أقل اضطراباً ودموية وفوضوية عما كانت عليه الحال في مسيرات (الربيع) السابقة.