فواتحَ الألفية الميلادية الأولى وقع العرب بين كماشتَي قوتَين كانت لهما الهيمنة والسيادة، وهما الفُرس والروم، وكان العرب -وقتَها- لا يشكِّلون شيئًا أمام تينك القوتين الباسطتَين لنفوذهما على أجزاء من بلادهم، كل ما بمقدورهم فعله هو مراقبة وقائع الصراع بينهما، والتأييد -بحسب المصلحة- لطرف دون آخر، حتى إن القرآن الكريم ذكر أن انتصار إحدى القوتَين على الأخرى كان يشكل حالة من الفرح لدى العرب، خاصة مع مطلع الدعوة المحمدية، فقال تعالى: «ألم* غُلبت الروم* في أدنى الأرض، وهم من بعد غلَبِهم سيَغْلِبون* في بضع سنين، لله الأمر من قبل ومن بعد، ويومئذ يفرح المؤمنون*»، وهذا الفرح جاء من كون الروم أصحاب (كتاب)، خلاف الفرس (الوثنيين). ثم جاءت فترة ظهورِ الإسلام وانتشاره خلال الخلافة الراشدة، ثم الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، فكان العرب هم القوة الظاهرة، ولم يعد الفرس والروم يشكلان شيئًا أمامهم. وبسقوط الدولة العباسية بدأ الانكسار العربي حتى عاد العرب إلى ما كانوا عليه من تشتت وضياع وتبعية، وأصبحت ديارهم نهْبًا وطمعًا للأعاجم، عندها ظهرت حالتا هيمنة جديدتان، هما حالةُ هيمنةِ الدولة العثمانية، ثم حالة هيمنة الغرب المستعمِر. حالتا الهيمنة (العثمانية والغربية) كان لهما نتائجهما التي أحدثت خللاً في السياق التاريخي العربي، وشكلت واقع العرب الحالي؛ ففي الحالة العثمانية ضُرب على العرب طوق من الانغلاق وعدم الانفتاح على الآخر حتى انقطعوا عن محيطهم، وكان سلاطين الدولة العثمانية في حالة من التصادم مع علوم ومعارف الآخر، خصوصًا وتلك الفترة كانت تشهد حركة متعاظمة في حقول العلوم التجريبية والفكر والمخترعات الحديثة والاكتشافات، ومع هذا صَمَّ العثمانيون أسماعهم وأغمضوا أبصارهم وصرفوا رعاياهم -بما فيهم العرب- عن هذا التطور العلمي والفلسفي المتنامي حتى تجاوزهم الرَّكب الحضاري وأصبح العرب في مؤخرته، وهو ما هيَّأ الفرصة للغرب لينقض على الدولة العثمانية (المريضة) ويغنم ديار العرب ويبسط هيمنته على (٩٩٪) منها، ثم عمل خلال هيمنته -وحتى بعد جلائه- على فصل العرب عن هويتهم وتراثهم العربي والإسلامي بوسائل شتى تعليمية وثقافية وإعلامية، وفي أحايين بقوة السلاح والقهر. على هذا كان لهاتين الحالتين (العثمانية والغربية) اليد الطولى في إحداث هذا الخلل الكبير البائن في مسار التاريخ العربي، وهذا الخلل يسميه الشاعر المفكر علي أحمد سعيد (أدونيس) حالةَ قطعٍ، وذلك بحسب ما ذَكر في وثيقته التاريخية القيمة (بيان الحداثة) التي دونها منذ حوالي ثلاثة عقود (١٩٩٢م)، مؤكِّدًا على أن هذا الخلل يتمثل «في قطعين كبيرين: الأول، هو القطع العثماني، والثاني، هو القطع الغربي. بالقطع العثماني انفصل العرب عن أفق الإبداع الحضاري، وبالقطع الغربي، انفصلوا عن هويتهم الحضارية، وإذا كان خطر القطع الأول يتمثل في تعميم الظلامية وترسيخها، فإن خطر القطع الثاني يتمثل في تعميم نور زائف». وعلى هذا تتضح لنا خلفيات المراهقات التركية اليوم التي تأتي طمعًا في استعادة تلك الفترة العثمانية تحت مسمى (الخلافة)، وتتضح لنا خلفيات ممارسات الغرب التي تأتي رغبةً في توسيع هوَّة الانفصال العربي عن هويتهم الحضارية وذلك بتصديره (النور الزائف) للمستضعَفِ العربي. إلا أن هذا ينبغي ألا يصرفنا عن الاعتراف بأن لدى الغرب ما ليس لدينا، ولديه ما نحن بحاجة قصوى إليه، ولذا يقول أدونيس في بيانه «يجب أن نعترف أن في الغرب إبداعات تجيبنا عن كثير من مشكلاتنا، وأن ما ينقله إلينا ليس كله خاليًا من الحق». خلل السياق التاريخي العربي -المتشكل بفعل القطعَين العثماني والغربي- بحاجة إلى إصلاح، وأَجدى وسائل الإصلاح هي قطعُ العربِ تَبِعات الخلافة العثمانية وأحلامها المتجددة، وقطعهم (حالة عدم التوازن) بين الالتفات إلى هويتهم الحضارية العربية الإسلامية وبين أخذهم الحق الذي نقلته وتنقله إلينا الحضارة الغربية.
*ألقاكم -بإذن الله- منتصف شوال القادم.