يباغتني صديقي الذي يعلم علاقتي الطويلة بالسينما الغربية، وبعالم الأفلام السحري:
لماذا أنت متعلق بالسينما كثيرًا؟ وكيف.. كيف تشاهد الفيلم ذاته مرات ومرات..؟؟ ما الذي تجده في هذه الأفلام؟!
لا أعتقد أن أسئلة صديقي استنكاريةُ الطابع، كما أني لا أظنه باحثًا عن إجابات، فهو ليس بعيدًا عني في هوسه بالدراما وبالشاشات.. أعتقد أنه -ببساطة- يمارس سلوكًا من السلوكات الإيجابية التي تحفز عليها هذه الأعمال الفنية الراقية.. أعني هنا سلوكَ «السؤال»، وفعلَ «المساءلة» اللذين تستحثنا عليهما الفنون، والسينما من أهمها.
يدرك صديقي جيدًا أن «الترفيهَ» أحدُ أهداف هذه الصناعة، وقد يكون أبرز الأهداف، لكنه يعلم يقينًا أن السينما -بإمكاناتها الضخمة- لا يمكن أن تكون مجود «تسلية عابرة».
مشاهدةُ فيلم -بالنسبة لي ولصديقي المتسائل- نافذةٌ من نوافذ التنوير، فرصةٌ لرؤية العالم -بتعقيداته واختلافاته، بعجائبه وحكاياته-. مشاهدة فيلم دعوةٌ للوقوف على تنوع وجهات النظر، للتأمل، وموعدٌ لهز المشاعر وبعثرتِها. هي فرصة -سانحة باستمرار- لاقتناص ضحكة، أو استدارج دهشة، أو انتحار دمعة ( كم مرةً بكينا باستسلامٍ أمام مشهد..!؟ كم مرةً بكيتم؟؟).
الفيلم صديقٌ يدّعي الحياد، لكنه يأخذ قناعاتك في رحلة مساءلة، يهز منها ما يُهز، ويجزُّ منها ما يُجز... كل رحلة مع هذا الصديق تجربةٌ لفهمِ الحياة أكثر.. وإدارك تفاصيلها العصية على الإدراك.
أثار صديقي أسئلته تلك حين داهمني وأنا أشاهد -للمرة الرابعة أو الخامسة ربما- فيلم Camp X-Ray (معسكر إكس-راي أو معسكر الأشعة السينية)،.. شاهدته أول مرة قبل خمسة أعوام تقريبًا، ولا أزال أفعل كلما سنحت لي الفرصة.. يتحدث الفيلم عن علاقة غريبة تنشأ بين سجين مسلم في غوانتنامو وبين سجانةٍ شابة؛ يحدثنا الفيلم -ضمنًا- عن أمورٍ مهمة وقضايا رئيسة جلبتها ظروف العصر، كما يتناول مفاهيم إنسانية مركزية؛ مثل حق البقاء، وقيمة الحرية، يعيد النظر في معنى الصداقة وغايتها، ويوضح هشاشةَ النظرة النمطية، وما يترتب عليها من مفاهيم وأحكام مغلوطة
أحيانًا...
يسائل الفيلم -ضمنًا- مفهوميِ «البريء» و»المجرم»، ومن يضع حدودهما، يمرّ على تجربة «السجن» بوصفها تجربة مضادة للحياة، ويسلط ضوء الاستنكار على جريمة سلب الحرية، لمجرد الشك، أو لخدمة أجندة سياسية معينة... يصور الفيلم أيضًا -انطلاقًا من زاوية معينة- العلاقة بين الشرق والغرب، عبر علاقة السجانة (الصارمة/ الناعمة) بالسجين (الحميمي/ المشاكس)؛ تبدأ العلاقة فاترة، متوجسةً، ومشحونة بالأحكام المسبقة، ثم يبدأ العنصر الإنساني في ممارسة عادته ليحولها إلى صداقة حقيقية.. «صداقة» تجعلني أضع ثقتي كاملةً في من يفترض به أن يكون عدوي! (ما أعمق هذا السؤال!!).
ينادي (علي أمير) -الذي يقوم بدوره الفنان الإيراني الأصل بيمان معادي- سجانته الشقراء بـ(بلوندي).. بينما هو بالنسبة للسجانة -كريتسن ستيورت- مجردَ رقم..
هو مثقفٌ، ملتحٍ، مشاكس، يُؤْمِن بهويته، ويرفض أن تصاغ له قيمه وقوانينه.. لكنه -في الوقت نفسه- يحب (هاري بوتر).. ويحب أن يتحدث للحراس (الذين لا يستيطعون دومًا مجاراته أو تلبية رغبته).. يكره شهر يوليو: لأنه الشهر الذي يتغير فيه الحراس.. يذهب أصدقاؤه السجانون الأمريكيون الذي «كسبهم» خلال العام بمشاكساته ونوبات نزقه.. يذهب الأصدقاء/الأعداء في يوليو، بينما يبقى هو.. قابعًا في نفقه المظلم.
آخر المشاهد وأشدها توترًا، حين يحين موعد رحيل صديقته (بلوندي)، فيقرر أن ينتحر.. يسيطر الحوار على المشهد، تخاطر (بلوندي) بكل شيء لتثنيه عن الانتحار.. تناديه باسمه الحقيقي (لا برقم زنزانته).. يصبحُ: (علي).. وتصبح هي: (إيمي)..
تمدُّ يدها من كوة الباب -في مجازفة أخيرة- ليناولها السكين التي كاد أن ينتحرَ بها.. يطيعها، فتمسكُ كفّه.. ثم تشد على معصمه.. ويشد على معصمها.. ويبكيان..!!
وأبكي أنا..!!
ثم يبدأ صديقي في سيل أسئلته.. تلك التي لا يبحث عن إجابات لها!!