حينما علمت بمرض أبي تجمدت أطرافي واقشعر جسدي وتوقفت الكرة الأرضية عن الدوران، ولكن لم أبكِ ولم تصدر مني أي ردة فعل، مع مضي الأيام نظرت إلى نفسي ولم أعرفها، تغيرت ملامحي، لم أعد أنا، حينها علمت جيدًا أن الحياة توقفت وأنا الآن نحو طريق جديد ..
فالوقت لا يمضي وكل آرائي تغيرت ومنظاري للحياة لم يعد كما كان، ما أعيشه حاليًا هو دوار شديد في الأفكار، قادم مجهول الهوية، وقت ثقيل لا يمضي، أصبح الليل والنهار واحدًا، لا طعم لأي شيء.. والنوم أجهله بل لم أعد أعرفه أبدًا ..
ومهما كانت الليالي دافئة إلا أن الخوف يجعل جسدي كالصقيع، ففي الصباح نأخذ أجمل الكلمات من الأطباء ويأتي الليل نفقد ذلك الأمل ونتجرع الألم معهم ..
* الأسبوع الأول : منذ خبر مرض أبي عشت أشد أنواع الخوف وجهل المصير، كنت في حيرة من أمري بين إبلاغ أمي وعائلتي أو البقاء صامتة حتى وقت العودة إلى الوطن، هل نبدأ العلاج خارج الوطن أم في طيبة الطيبة وتنفيذ وصية أبي في الدفن في (بقيع الغردق)، ثم قررت العودة وكانت أصعب رحلة، لم يكن هناك استرخاء واستمتاع بالسفر، كنت في مراقبة شديدة على جهاز الأوكسجين المتصل بأبي
* الأسبوع الثاني :وصلنا إلى أرض الوطن بعد لحظات رعب في الطائرة، كانت ذروة المعاناة في هذا الأسبوع، بدءًا من الدخول للمستشفى وبعض الإجراءات العقيمة من تحويل مركز الحي للمستشفى، وعقب مدة من التنقل بين الخاص والحكومي استقرينا أخيرًا في مستشفى الملك فهد الذي لا أخفي تعاون أطباء قسم الأورام وأخلاقهم الرفيعة وإنسانيتهم، كذلك الإداريين قمة في الأخلاق والمعاملة الحسنة، وسخر الله لأبي دكتورًا ممن نفخر بهم كأطباء سعوديين، وتقبل أبي الطبيب بل وأحبه جدًا.. وعقب التشخيص قرر الطبيب العلاج الكيميائي، وإخبار أبي ليكون أكثر شفافية وصراحة مع مرضاه، وكنت ضد الفكرة، فموضوع إخبار شخص يفوق الستين من العمر بمرض كالسرطان هو خبر لا تتحمله الجبال ..
أخبر الطبيب أبي عن مرضه وخطة علاجه، كان بطلا خارقا في ايصال الخبر.. لن أنسى تلك اللحظة مهما طال عمري، وضع أبي يده الحنونة على رأسه من شدة الصدمة ثم بكي بكاءً هز جميع أجزاء جسدي، أذكر يومها أني استمريت أبكي حتى جفت عيني ..
* الأسبوع الثالث: اليوم هو يوم إعطاء أبي أول جرعة من الكيماوي، ليس من السهل أن أصف مشاعري في ذلك اليوم، فلم أذرف الدمع من عيني ولكن أوردة قلبي كانت تعتصر دمًا ودمعًا.. كل ما تشعر به وتتألم منه يا أبي أنا أشعر به في قلبي ونبضاته.
* الأسبوع الرابع : تم الانتهاء من فحوصات وتحاليل ما بعد الجرعة الأولى، وعلى أساسها قرر الطبيب إيقاف الكيماوي حيث أن جسد أبي لم يعد يتحمل، ولم تستجب الرئتان كما كانوا يأملون، وقد يضر به أكثر من نفعه.. لم يعد هناك خيارات متاحة سوى العلاج التلطيفي وهو مساعدة المريض لتحسين حياته بالاهتمام والرعاية والمسكنات ..
أصابني العجز أمام هذا الخبر كنت أدعو الله أن يمنحني القوة والصبر والرضا بالقدر ..
* الأسبوع الخامس :هل هلال رمضان الشهر الذي يحبه أبي، كان يذبح في أول وآخر رمضان .. ويكثر من الصدقة والزكاة خلال هذا الشهر.. وآخر خمسة أيام كنا نقضيها بجوار الحرم الشريف.. ولم يستطع عمل شيء من هذا.
ثم أتى العيد.. لم يكن عيداً سعيداً .. هو ألمٌ وفقد .. دمعٌ وحزن ..ضيقّة وغَصة وقلب موجوع .. ومشاعر صعب وصفها .. أبي موجود ولكنه مفقود ..افتقدت قبلتك على جبيني وقبلتي على يدك.. افتقدت عيديتك وكلماتك وهداياك ، لم نفعل شيئًا في العيد سوى البكاء .
* الأسبوع السادس :بينما أرافق نور عيني أبي في المستشفى، وأتحدث معه كالعادة، ولكن لا يجيب برأسه كالعادة، وطالت فترة النوم ولم يستيقظ أبي، تملكني الخوف والقلق، لم يمض الوقت بسهولة بل ببطء شديد حتى حضر الطاقم الطبي وتم إجراء بعض الفحوصات ليتم إخباري أنها (جلطة في المخ).. إثرها ربط لسان أبي، ولم يعد قادرًا على الأكل والشرب ولا حتى قضاء الحاجة، وتدهورت حالته النفسية، ودخل في مرحلة من اليأس والكآبة الشديدة ..
بين الفرح والألم أقف أنا شامخة، ففرحي بأن الله اختارني واصطفاني لخدمة أبي وأمي من بين إخوتي الستة لرعاية أبي في مرضه وحمله من بلد إلى آخر وخدمتي له وتقبيل قدميه ورأسه، جعلني أكثر سعادة ورضا بقضاء الله وقدره، بقدر ما أتألم لألمه ولكن ضميري وقلبي يطيران رضى وفرح ..
كرست كل حياتي في العناية بأمي وأبي ولن أنسى ما حييت من دعمني في محنتي، في عز تلك المعمعة كنت وحيدة لدرجة أنني اتحدث مع نفسي واستشيرها، كنت في أشد الحاجة لكتف أتكئ عليه يعوضني جزءًا بسيطًا عن أبي السند واليد الحانية.. عدت لجبار القلوب وألقيت نفسي على سجادتي وبكيت حتى جفت عيناي ونمت .
أتمنى لو باستطاعتي التحدث معك يا أبي، أتمنى أن أسمع صوتك، افتقدتك بشدّة، المنزل بدونك يا أبي قبرًا .. مهما طال الغياب وكسر قلبي بالفراق، ومهما طال إشراق الشمس وغرُوبها ستظل انت في قلبي وجميع توصياتك هي أمانة في عنقي حتى الممات.