لم يكن الدكتور صالح التويجري يدري أن الواقف معه في حقول القمح بعنيزة، فلاح من قلب دلتا النيل، شارك الفلاحين فرحتهم بيوم الحصاد، واستمتع أيما استمتاع بركوب «النورج» أثناء «درس الغلة»، قبل أن تأتي «الدراسة» فتلتهم أعواد القمح وتلتهم معها شعورنا بالفرح!، كنت قادماً من لندن خصيصاً لإعداد تحقيق مصور عن زراعة القمح في القصيم، كلفتني به رئيسة تحرير سيدتي «الراحلة فوزية سلامة» وقد فعلت!.
وقفت مع صالح، فراح يمطرني بأشعار جميلة وبعبارات جزلة، دفعتني لأن اسأله عن نوعية دراسته، فأخبرني بالتهيؤ لمناقشة الماجستير في أدب نجيب محفوظ!
اكتملت روعة رصد عملية الحصاد في القصيم، بروعة الحكايات التي قصها «صالح» الذي حصل بالفعل على الماجستير، ثم صار فيما بعد مديراً للتعليم ثم عميداً لأحد المعاهد. وحين سألني عن نوعية الغذاء الذي أريد، قلت: لتكن عصيدة أو مخروطة، وطار فرحاً بتفاعلي مع المشهد!
لم أجد سبيلاً لمجاراة أخي صالح وهو يستدعي نصوصاً أدبية في الحصاد، أجمل من ترديد أغنية الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب: القمح الليلة عيده.. يارب تبارك وتزيده.. لولي من نظم سيده.. متحكم بين عبيده.. أرواحنا ملك إيده.. وحياتنا بيه! هلت على الكون بشايره.. ردت للعمر عمره.. والأمر الليلة أمره.. يارب احميه! يا حليوة أرضك راعيتها، والنظرة منك تحييها.. من شهدك كنت بترويها، والخير أهي هلت مواعيده.. يارب تبارك وتزيده!
أعادني المشهد البديع للوحة الفنان العالمي الشهير فان جوخ «حقول القمح».. إنها اللوحة التي استهوت كبار شعراء العالم فكتبت عنها الشاعرة انا بوجو نوفسكا.. هندسة زهور الكاستانيا.. أنت الذي قسمتها.. آلاف البقع التي تنير الدوار.. أنت الذي حسبتها.. الأرض تتنفس الخضرة.. والقمح يغرق العيون بطوفانه وجماله.
وكتب الشاعر الألماني باول سيلان يقول: أمواج القمح تحط عليها أسراب أبي قردان.. زرقة أي سماء هذي؟ آخر سهم تطلقه النفس.. خفقان أقوى.. لمعان أقرب.. وهنا وهناك يتجلى العالم. وقدم الألماني صورة شعرية أخرى للقمح يقول فيها: وعر هذا الجبل تصدع.. والحقل حريق.. ذهبي يسطع.. قلبي وهو غراب الجوع.. يحلق فوق الأرض.. وينعق!
ورغم انبهاري بلوحة القمح لفان جوخ وما كتبه شعراء العالم عنها فقد جلست على مائدة أرضية كبيرة مع الجالسين في مزرعة التويجري بالقصيم لأروي لهم جوانب من حكاياتي وذكرياتي مع القمح والحصاد في الرملة.
هناك كان يحلو للضمامة أثناء ضم الغلة، تشجيع بعضهم لبعض، تارة بإطلاق نكتة أو سرد حكاية أو تكليف أحدهم يغالبهم النوم بملء «القلة» فليس كالكسل والنوم علة!
كانوا أثناء الضم يقسمون على الواحد الفرد الصمد القدوس الملك، ويستجيبون لدورة الفلك، ويخرجون أهلهم من حالات الضنك، وقريتهم كلها من الحلك!
يبرق المنجل منتشياً، في وجه «عبده الشورى» وهو يشتهي لمسة الجذر العميق الطويل، فتنهض السنابل على ساقها، وعلى صدره ترحب وتميل.. ما الذي لا ينير هذه الليلة حين يأتي الضمامة.. ما الذي من الفرح لا يطير، حين يبدأ ضم الغلة وتكبر الأحلام في الصدور؟!
عند الفجر، حين يكلفني أبي اختباراً لمدى شجاعتي، بالذهاب الى الضمامة للسلام والاطمئنان، كنت أصافح غيطان القمح المنتظرة وأشجار التوت النشوان.. تملأ الأجفان وأنا أمضي تعانق أحلامي السماء والأفنان!
أيام قليلة ويأتي الجَمَّال الأنيق ذو الشارب الطويل «مختار سالم»، أو ينوب شقيقه «إمام» الذي كان يشد الحبل على «الحمل» فوق الجمل وهو يصرخ أو ينادي ربه، بكل همة وعنفوان!
يمر الزمان ويصبح العم «إمام» وديعاً ضحوكاً هادئاً تطل من وجهه علامة أو ابتسامة، حين يلمح طفلاً في الجرن يهش هدهداً أو حمامة!
في حقلنا شاهدت الجمَّال الطيب «عبد المعبود» وهو يبسمل ويسمي قبل أن يشاكس كبير الضمامة «طلبة»
لقد عرف أبناء قريتي «طلبة» ابن العمة «منصورة» باعتباره «فاكهانياً» وليس عنصراً أساسياً في فريق «الضمامة»! يأتي «طلبة» بقامته العملاقة الفتية.. بسمرته النوبية النيلية.. بندهته وضحكته الغجرية.. بشهامته الريفية.. يملؤني الخوف لحظة، قبل أن تنفرج أسارير وجهه ويمطرنا بعباراته ودعواته القلبية!
زند مفتول.. تعرفه السنابل والحقول.. وسعد ابن العمة «فج» رباطة الجأش والرضا والصبر.. وسيد أحمد الفرماوي الذي تحول وجهه مع تقدم العمر الى مساحة للحب والخير والألفة! والعم «مشحوت» الذي كان من فرط أدبه وخجله تهش له الغيطان والبيوت.
سرحت بل استغرقت تماماً مع هذه المشاهد الجميلة.. الأجران المليئة بالخير.. والحمام الذي يحلق فوقها ويكاد يلامس رؤوسنا في سلام.. وحواديت ومواويل الليل.. وصوت فاروق شوشة ولغته الجميلة وغناء عبد الوهاب للنيل.. وكان لابد من الرحيل.. عدت الى لندن!