لم يعد وجود الحاسب الآلي على مكتب أي موظف أمراً مستنكراً أو غريباً، الغريب هو العكس؛ بعد أن أصبح الحاسب (بصرف النظر عن كيفية استخدامه) جزءاً من متطلبات المظهر العام للموظف، وبعد أن أضحى شراء أفضل الماركات منه وأكثرها شهرة مجالاً للتنافس بين الوزارات والمؤسسات الحكومية. وهذا أمر جيد ولا شك، فوجود الحاسب في أي إدارة له دلالات جيدة من حيث التنظيم والإنجاز والكفاءة والسرعة والعصرية، لكن الأمر الصادم هو أن تجد هذه التقنية المكلفة تستخدم كمظهر خارجي وغطاء يخفي تحته مؤسسات (ورقية) وعقول بيروقراطية بامتياز.
مؤسف بالفعل أن تجد تطبيقات الحاسب المستخدمة في الكثير من مؤسساتنا الحكومية لا تزيد عن (برمجيات) صادر ووارد سخيفة، تتعقب حركة المعاملات وتنقلاتها بين الأقسام المختلفة فقط ، دون الدخول في عمق الأعمال الروتينية اليومية ومحاولة تنظيمها ومعالجتها تقنياً من أجل اختصار وقت وجهد المواطن والموظف، ودقة النتائج، وتقليل الهدر المالي والإداري الذي أصبح سمة ملازمة لبعض إداراتنا التي لا ترى في الحاسب أكثر من آلة تسجيل لحفظ المواعيد وطباعة الخطابات لاغير!.
خمسة أشهر كاملة قضيتها بين ممرات ومكاتب إحدى الادارات الخدمية من أجل الحصول على (رقم) صغير؛ يمكن استخراجه في دقائق لو كان هناك حوسبة فعلية للعمل؛ غير أن البيروقراطية العتيدة هي من كانت تسيِّر الأمور رغم أنف الحاسب، فتوقيع مسؤول واحد قد يتطلب أسبوعاً كاملاً أو أكثر.. ولولا تدخل بعض (الطيبين) لتضاعفت المدة إلى ما شاء الله. المضحك المبكي هنا أن أحد الموظفين قال لي مواسيا بعد أن سمعني أتذمر من طول المدة: «احمد ربك.. غيرك يجلس سنين»!.
البيروقراطية فكر قبل أن تكون أي شيء آخر.. وهذا الفكر المعيق إما أنه يعود لتكاسل وتراخي العاملين وعدم جديتهم في إنجاز الأعمال.. أو إلى محاولة البعض منهم التملص من المسئولية، واللجوء الى تعقيدات النصوص واللوائح، والنقل الحرفي لها دون أي مرونة، مما يتسبب في تعقيدات كبيرة للأعمال، وتعطيل للمصالح العامة، وضعف الكفاءة وهدر الطاقات والثروات. وهو ما يمثل شكلاً من أشكال الفساد الإداري، الذي يشيع للأسف في الدول النامية التي تميل بطبعها إلى النموذج البيروقراطي التقليدي، بسبب أن معظم الجامعات والمعاهد الإدارية فيها لا تزال تدرس المفاهيم والنظريات الإدارية التقليدية القديمة.
الفكر البيروقراطي فكر ضيق ولا يرى إلا في حدود ضيقة جداً. يروي الرئيس الروسي بوتين طرفة ذات معنى تقول إن جاسوساً أمريكياً قرر الاستسلام فذهب الى مبنى المخابرات الروسية وقال: أنا جاسوس أمريكي وجئت لأسلم نفسي، فسأله أحدهم: هل لديك سلاح؟ فأجاب: نعم. فقالوا له اذهب للغرفة رقم 7. دخل الغرفة وقال: أنا جاسوس أمريكي ولدي سلاح فسأله أحدهم: وهل لديك وسيلة اتصال مع المصدر؟، فقال: نعم. فقالوا له: هذا من اختصاص الغرفة رقم 20. فصعد الرجل الى الغرفة وقال: أنا جاسوس ولدي سلاح ومعي جهاز اتصال. فسألوه: وهل لديك مهمة محددة ؟، فردَّ: نعم. فقالوا له اذاً اذهب ومارس عملك ودعنا نمارس عملنا أيضاً!!.