تعيد مخطوطة عمر بن سعيد النظر في الكثير من اليقينيات الغربية الاستعمارية التي تلقيناها منذ قرون بلا أي حق في السؤال وتأمله، من بين اليقينيات الكاذبة، أمية العبيد الذين سُرقوا من أراضيهم وبيعوا في أسواق النخاسة الأوروبية والأمريكية، بشكل ظالم.. في الوقت الذي اعتذر فيها العالم الغربي الاستعماري لجرائمه ضد الإنسانية، لم يقل اليوم ولا كلمة عن العبودية التي كان ضحيتها الملايين من السود.. ألم يحن الوقت بعد ليعتذروا عن العبودية التي مست ملايين البشر، في أفريقيا، والضرر التي تسببوا فيه ضد ناس لا ينقصهم لا الفكر ولا العقل سوى عنصرية البشرة التي افترضتهم أقل حتى من الحيوانات رتبة، وجعلتهم خدمًا عند الذين حشروهم في سفن العبيد وقطعوا بهم البحار، بعيدًا عن أراضيهم الأصلية.
عمر بن سعيد الذي استعبد لم يقل كلمة عمر بن الخطاب عندما جعل ابن القبطي ينتقم لنفسه من ابن عمرو بن العاص الذي ظلمه بحكم سلطة والده، لكنه عاشها: «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟» فقد نقل عمر بن سعيد مستعبدًا في سنة 1807 من السنغال، من قريته فوت تور، إلى تشارلستون، في الولايات المتحدة، في سن 37 من عمره، وبقي هناك، في معاناة استمرت ربع قرن.. وعلى عكس ما يروى عن الأفارقة المستعبدين، فقد كان الكثير منهم علماء حقيقيين.. استطاع عمر بن سعيد أن يكتب يوميات العبودية، باللغة العربية لأنها كانت اللغة المتاحة للتدوين التي تعلمها عن طريق الدين الإسلامي الحنيف، والقرآن الذي كان وسيلته للاستمرار والحياة.
الجميل في رحلة هذه المخطوطة أنها أنقذت من التلف بالوسائط الحديثة.. فقد اشترتها مكتبة الكونغريس، قبل سنتين وتمت رقمنتها لتوضع في متناول جمهور القراء، كاشفة عن فصل مؤلم من حياة عبيد أمريكا الذين لم يكونوا كلهم أميين أو بلا أديان.
يقول عمر بن سعيد في مخطوطته واصفًا حاله: «جاء إلى مكاننا جيش كبير، قتل العديد من الرجال وأخذني وجلبني إلى البحر العظيم... لقد باعوني لأيدي المسيحيين الذين ربطوني وأرسلوني على متن سفينة كبيرة، وأبحرنا في البحر العظيم مدة شهر ونصف، حتى وصلنا إلى مكان يدعى تشارلستون».
ترجم الباحث علاء الريس من جامعة نيويورك، المخطوطة، فكتب يقول في مقدمتها: «إن عدم أمية عمر بن سعيد، وثقافته يتعارضان تمامًا ويلغيان السردية المتداولة التي تفيد بأن العبيد لم يكونوا مثقفين».. كان عمر بن سعيد شابًا في مقتبل الحياة.. ولم يكن أميًا ولا فقيرًا.. في تشارلستون، بيع لرجل شرير وبعد سنوات الإذلال استطاع أن يهرب من جبروت سيده، وسلطانه القاسي.. لكن سرعان ما قبض عليه وأعيد إلى سيده، وهناك وضع في السجن، فبدأ في كتابة قصته على جدران الزنزانة باللغة العربية لدرجة أن أثار انتباه الكثير من شخصيات العصر، ومنهم شقيق حاكم ولاية كارولينا الشمالية الذي اشتراه وحرره.
عندما استقر به المقام، وبلغ الستين من عمره، كتب سيرته باللغة العربية، هي قصة ليست بعيدة عما عاناه عبيد أمريكا التي وصفها بدقة الكاتب الأمريكي ألكس هالي، في روايته: جذور (1976) قبل ترجمتها إلى الإنجليزية، فقد كانت الباحثة سيلفيا ألبيرو هي من أنقذ المخطوطة من التلف والضياع، بجهود استمرت طويلاً حتى أصبحت اليوم متاحة، ومتداولة في الإنترنت، وفي المواقع، بالإنجليزية.. بقي أن تنشر في لغتها الأصلية العربية، وتوزع على نطاق واسع لأنها درس في الحياة والنبل والمقاومة، سيسمح بإعادة كتابة تاريخ العبودية الذي افترض سردها، وما يزال إلى اليوم: كل من ليس غربيًا (أبيض)، فهو جاهل وأمي، يجب تحضيره!!.