خمسون كرتوناً أو يزيد ناءت بحملها سواعد الرجال الأشداء وأكتافهم.. اتفقتُ معهم أني سأنتقل لمنزلٍ جديد، ولا أطيق الوصول قبل صديقة العمر...
حين رأى عمال شركة النقل مكتبتي استهالوا، وغُمّ عليهم.. استند رئيسهم على حافة الباب وقال:
- «مكتبتك كبيرة جداً ما شاء الله»!!
ثم أضاف:
- «حاقة جميلة فعلاً.. بس للأسف الناس معادش بتأرا!! والشباب ما لهومش في الكتب خالص»!!
لا أخفيكم أني تشككت في نواياه، لكني لم أجبه.. فكرتُ في مكتبة أبي، تلك التي رافقتُها حتى اشتد عودي، وعندما توفي رحمه الله بقيَتْ في عهدتي، أرعاها براً بصاحبها، وبها.
كانت مكتبة أبي محتضني الأول الوارف الظلال، وأنا أتلمس خطواتي الأولى في عالم القراءة العجيب.. وعندما استقللتُ في بيت، كانت المكتبةُ أولَ الأثاث، وأشهى الإناث.
بدأتْ حكايةُ مكتبتي مع كتبي الأولى التي احتفظت بها من الثانوية والجامعة، أذكر منها ديوان إيليا أبو ماضي وأيام طه حسين وأعماله الأخرى، وسارة العقاد وأناه، وغيرها... في تلك الأيام كنا نسافر خارج الحدود لنشتري الكتب!! كل شيء كان ممنوعاً، لا أعني هنا كتب العابدي والعروي وأركون ودواوين نزار ودرويش ودنقل فقط، بل حتى كتب غازي القصيبي والغذامي وتركي الحمد وعبده خال، وهي حقيقة أكررها في مقالاتي للاستمتاع بمرارتها كما تعلمون.. وحين عادت معارض الكتاب للمملكة، عادت الحياة لتنتفض في عروق مكتبتي وبين رفوفها النابضة.. كنت مع سمير -أخي- نتسكع بين المعارض، مرة يحمل سمير الكرتون، ومرة لا يسمح لي أن أفعل.. أذكر أن مجد حيدر صاحب دار «ورد» سألنا يوماً إن كانت لدينا مكتبة تجارية نتسوق لها بمثل هذا النهم، فأجبناه بالنفي، وبابتسامةِ تاجرين فاشليْن بالوراثة!!
هكذا تكونت مكتبتي، وصديقة عمري، وظلت تنمو وتتضخم.. كتبٌ يجلبها لي أصدقاء من هناك وهناك، بتوصية أو من دون توصية، ذلك الذي يهديني كتاباً لا أنساه أبداً.. ومن أعيره كتاباً ولا يعيده لا أنساه كذلك.. (مؤخراً علمتُ أن مجموعة من الكتب الثمينة التي أهديتها لصديق لم يبق منها غير الرماد.. يا حسرةً على العباد).
ظلت مكتبتي تتنقل معي بين البيوت، وحين حانت البعثة وضعتها أمانةً في بيت والدي رحمه الله، وهناك أخذ أبي بثأره مني ومن كتبي، ويا لعجب الأقدار.. عاد أبي يقرأ من مكتبتي.. وفقدتُ مجلداً عزيزاً وفخماً لمختارات نزار قباني... هل أهداه أبي لشخص ما؟؟
وحينما عدتُ كانت صديقتي في انتظاري... وهي الآن تنتقل لمنزلها الجديد، لأحلَّ ضيفاً عليها!
قبل أسبوعين، وقعتُ - في جدة التاريخية- على مكتبة ثمينة اقتنصت منها بضعة كتب.. سألت صاحب المكتبة عن عدة كتب فأخبرني أنها قد تكون في المستودع، فطلبت مرافقته.. لكنه قال:
- ايش تجي معي؟! المستودع في الخمرة، وفيه 13 ألف كرتون كتب؟
لمعتْ عيناي.. وندمَ بائع الكتب على ثرثرته.
في رواية (ثلاثية غرناطة) تحكي فدوى عاشور عن جيل الأندلسيين الذين واجهوا محاكم التفتيش والإبادة، وطمس الهوية.. تحكي عن مكتبة عربية نفيسة اضطرت عائلة مسلمة لدفنها كي تنجو من الحرق.. لكنها لم تنج للأسف؟!
سأوصي الأبناء إن ضاقوا بمكتبتي يوماً ألا يحرقوها. سأوصيهم أن يدفنوها قريباً مني..
لعلي أدعوها نحويَ فتجيبُ..
لعلّ «الغريبَ إلى الغريبِ قريبُ..!!»