تحفل منظومة الحج وأعماله، بكثير من العمليات المفصلية والحرجة الخاصة بإدارة الحشود، من نقل وتصعيد ونفرة وتفويج وغيرها، والتي تتم في مكان وزمان محددين، الامر الذي يمثِّل تحدياً كبيراً، بل يشكل هاجساً للجهات المختصة وذات العلاقة، ممّا يستوجب تكامل جميع العلوم والتخصصات الهندسية، لتتسق مع الحلول الإدارية والتنظيمية، لتقديم باقة حلول متكاملة تُمكِّن حجاج البيت العتيق، من أداء مناسكهم بكل يسر وسهولة وأمن وأمان، وذلك في ظل بروز برنامج: «خدمة ضيوف الرحمن»، الذي من أوّل وأهم أهدافه، استقبال المزيد من الحجاج والمعتمرين وتيسير وصولهم إلى الأراضي المقدسة، حيث من المؤمل أن ترتفع أعداد المعتمرين إلى (15) مليون معتمر في عام 2020 مع استهداف الوصول إلى (30) مليون في العام 2030، في الوقت الذي ترمي فيه وزارة الحج والعمرة، إلى أن يبلغ عدد الحجاج (4,5) مليون حاج، مما يتطلب توفير المزيد من المشروعات الهندسية والتوسع في تلك التي هي قائمة في الوقت الحالي، وبذل جهود مضاعفة لخدمة هذه الأعداد المتزايدة من حجاج ومعتمرين وزوار للمسجد النبوي الشريف.
ومما يدعو للغبطة والسرور، قيام العديد من كليات «الهندسة» في جامعاتنا السعودية، وكذلك بعض معاهد ومراكز البحوث والدراسات المتخصصة، بكثير من المبادرات والابتكارات «الهندسية»، التي شكّلت إضافات مهمة في هذه المجالات، ولتُسهم هذه الكيانات التعليمية والبحثية والصروح العلمية والأكاديمية الشامخة، في فتح آفاق أرحب وإتاحة فرص أكبر، لإيجاد حلول علمية وعملية لبعض الظواهر والمشكلات، ومنها مشكلات إدارة الحشود عند التفويج لمنشأة الجمرات وفي الحرمين الشريفين والازدحام والتكدس في طرق السيارات والمشاة في المشاعر المقدسة وتلك المؤدية إليها، والتي انتهجت المنهج العلمي الذي يقوم بإخضاع المشكلة أو الظاهرة للدراسات العميقة، وعلى تسخير «التقنيات الهندسية الحديثة» لخدمة ضيوف الرحمن.
وفي رأيي، أن منبع هذه الإسهامات الأساس، هو مسؤوليات هذه الجامعات والمعاهد تجاه خدمة حجاج وعمار بيت الله الحرام بصفة خاصة، وتجاه المجتمع على وجه العموم، لتشهد كثير من المحافل البحثية والملتقيات والندوات والمؤتمرات العلمية وورش العمل التي تقام بين الحين والآخر، إسهامات مقدرة لهذه الجامعات والمراكز، ولبعض الشخصيات الهندسية والرموز العلمية المعروفة والمرموقة، التي تفخر وتعتز كثيراً بمساهماتها في هذه المجالات الجليلة، وبتوظيف العلوم والتقنية والابتكار خدمةً للشعائر الإسلامية ولتيسير أدائها لجميع المسلمين، وفي وضع حلول ابتكاريه وتطويرية للخدمات المقدمة لضيوف الرحمن، وذلك انطلاقاً من أن الاهتمام بالحرمين الشريفين وشؤونهما وضيوف الرحمن ورعايتهم، تقع في مقدمة عناية المملكة واهتماماتها وتقف في صدارة أولوياتها، ولتعد هذه الجهات «الهندسية والبحثية»، في مقدمة القطاعات التي سخرتها القيادة الرشيدة – أيدها الله – لخدمة منظومة الحج والعمرة، ولتقوم – بدورها – بتقديم العديد من الدراسات والبرامج البحثية، وتنظيم كثير من ورش العمل واللقاءات العلمية والملتقيات والندوات، من أجل ضمان راحة حجاج بيت الله الحرام وزوار المسجد النبوي الشريف وسلامتهم، والتي – ولله المنة والفضل – خلصت لكثير من التوصيات والمُخرجات العلمية والتطبيقات الذكية لتحقيق الأهداف المرجوّة منها، والتي جرى تطبيقها على أرض الواقع وفي مختلف ميادين العمل، والتي بدورها مثلّت إضافة مهمة لمنظومة الخدمات العصرية والحضارية التي تتشرف العديد من القطاعات والجهات – الحكومية والأهلية - بتقديمها لحجاج البيت الحرام والمعتمرين والزوار في كل موسم حج وعمرة، والمبني معلوماتها وأسسها ومخرجاتها على مبادئ البحث العلمي.
هذا بجانب عدم إغفال الأدوار المفصلية والكبيرة والمهمة والمحورية التي تؤديها كل العلوم والتخصصات الهندسية: (دراسةً، وتخطيطاً، وتنفيذاً، وإشرافاً، وتشغيلاً)، وذلك عند الشروع في إعداد وتصميم وتشييد جميع المشروعات والصروح الخاصة بضيوف الرحمن، والتي نفذتها المملكة لخدمتهم في الحرمين الشريفين، وكذلك في كل من المدينتين المقدستين: (مكة المكرمة والمدينة المنوّرة)، وفي المشاعر المقدسة، وفي كل موضع تطأه أقدام وفود الله، وخاصة في منافذ القدوم والمغادرة البرية والبحرية والجوية، من مطارات وموانئ ومعابر وغيرها، والتي يأتي في مقدمتها التوسعات الكبيرة في الحرمين الشريفين، ومشروعات الطرق والكباري والأنفاق والجسور، ومشروعات: (منشأة الجمرات العملاقة، وقطار المشاعر المقدسة، وقطار الحرمين السريع، والمطارات)، وغيرها، مما يستعصي حصره في هذا المجال، حيث قامت هذه المشروعات على أسس «هندسية» راسخة ومتينة، لتأتي متناغمة مع رؤية المملكة 2030، التي تؤكد على تقديم خدمات بجودة عالية، والتي في الوقت نفسه تؤكد على ضرورة تضافر الجهود لتطوير الأعمال وتوظيف التقنية والابتكار والإبداع والتطبيقات، وتسخيرها لتوفير البيئة الجاذبة لأداء قاصدي الحرمين الشريفين لأداء المناسك بكل يسر وسهولة، محفوفين بالسلامة والاطمئنان والأمن والأمان.
إن تكامل العلوم والتخصصات الهندسية بهدف عمارة الحرمين الشريفين وخدمة قاصديهما وتهيئة الخدمات لهم، كان لها قصب السبق والقدح المُعلى في قيام هذه المشروعات العملاقة التي نفذتها المملكة على مرِّ الحقب والأزمان، وذلك منذ تأسيسها على يد الملك المؤسس الباني عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - يرحمه الله -، مروراً بالعهود الميمونة لأبنائه البررة من الملوك الذين أولوا خدمة الحرمين الشريفين كامل عنايتهم – رحمهم الله جميعاً - حتى هذا العهد الزاهر المشرق، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، وسمو ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز –
حفظهما الله - والذي تم خلاله تقديم العديد من الخدمات والتسهيلات، وكثير من الصروح الضخمة لضيوف الرحمن من حجاج وعمار وزوار، والتي تحظى بمتابعة كل من صاحب السمو الملكي الأمير خالد الفيصل بن عبد العزيز، مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة، رئيس لجنة الحج المركزية، وصاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز بن سعود بن نايف بن عبدالعزيز، وزير الداخلية رئيس لجنة الحج العليا، وصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن سلمان بن عبدالعزيز، أمير منطقة المدينة المنورة رئيس لجنة الحج بالمنطقة، ونائبيهما، كل من صاحب السمو الملكي الأمير بدر بن سلطان بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة مكة المكرمة، وصاحب السمو الملكي الأمير سعود بن خالد الفيصل، نائب أمير منطقة المدينة المنورة.
* أستاذ الهندسة البيئية والمياه بكلية الهندسة والعمارة الإسلامية
مستشار مركز إدارة المخاطر والأزمات (سيف)، بجامعة أم القرى بمكة المكرمة.