لا يختلف اثنان حول وظيفة القارئ كما حددها وأمبرتو إيكو، بوصفها آلية مبطنة متممة للمعنى في النص.. تفترض بالضرورة لكن الذهاب بعيدًا باتجاه إعادة إنتاج وتركيب العمل الأدبي.. القارئ هو من يمنح النص امتداده.. لا يوجد كاتب غير معني بالقراءة.. في اللحظة التي يصبح فيها الكتاب مادة مسوقة، ينتهي دور الكاتب الذاتي، لتعوضه ماكنة الدعاية التي تجعل من المؤلَّف مادة استهلاكية يجب أن تصل للقارئ بالغواية المطلوبة، وإلا ستظل حركته عادية.. وهذا ما يجعل كتابًا ما مرئيًا أكثر من غيره.. أي يحقق أعلى المبيعات.
قبل صدور الطبعة الفرنسية من شيفرة دافنشي، للكاتب الأمريكي دان براون، احتلت الدعاية محطات الميترو والواجهات الجانبية للحافلات ولوحات مضيئة في أمكنة إستراتيجية يرتادها الناس.. لم يكن الروائي الأمريكي وقتها معروفًا بالشكل الذي يجعله مادة ثقافية استهلاكية فرنسيًا.. ويوم صدور الرواية مع معرض باريس، كان من الصعب أن تحصل على نسختك إلا بعد انتظار الساعات الطويلة.. المبيعات عالميًا، في السنة الأولى من صدور الرواية، تجاوزت الخمسين مليونًا.. من المؤكد، أنه كان من وراء ذلك نص مثير دينيًا وثقافيًا، ولكن أكثر من ذلك، ماكينة قوية استغلت كل سبل الدعاية وسخرتها للكتاب الذي تحول في فترة قصيرة إلى ظاهرة أدبية وبيست سيلر.
سؤال كبير يطرح نفسه في مثل هذه الحالات: من يصنع البيست سيلر، موهبة الكاتب؟ أم المؤسسة الإشهارية التي تقف وراءه؟ لا وجود في ثقافتنا العربية النشرية تقليد الدعاية للكتاب، بالتالي لا وجود للبيست سيلر عربيًا وفق المواصفات المذكورة.. أغلب المعارض العربية عندما تنتهي، تثير فكرة الكتاب الأكثر مبيعًا في المعرض.. فتسمع هنا وهناك العنوان الأكثر مبيعًا.. وهي لعبة مكشوفة تتم باتفاق ضمني بين الناشر والكاتب.. يتم ذلك في ظل غياب كلي لأية مؤسسة دعائية كما في أوروبا وأمريكا، باستثناء المبادرات الشخصية عن طريق الوسائط الاجتماعية التي يتم تحريكها بذكاء كبير أو أقل.
الغريب أن الكثير من العناوين التي تقدمها دور النشر على أساس أنها الأكثر مبيعًا، لا نعرف لا عدد سحبها، ولا كم جيء بنسخة إلى المعرض؟ متوسط السحب العربي بائس ويكاد لا يذكر.. الطبعة الواحدة هي ألف نسخة في أحسن الأحوال، وكأن ذلك يريح الكاتب والناشر..
الكاتب يسعد عندما يبلغ أن الطبعة الأولى خلصت (القصد السحب الأول) والناشر يسعد عندما يضع على الرواية الطبعة العاشرة.. لا نقلل من قيمة ذلك على مستوى التأثير على المقروئية، لكن السحب مخجل في أمة تجاوز عدد سكانها ٣٠٠ مليون نسمة.
في مرة من المرات شاءت الصدفة أن أعرف كم بعث الناشر الأصلي للجزائر بمناسبة المعرض.. قال لي الناشر وهو يذكر صعوبات النشر: أصبحت أسحب 500 نسخة، أوزع 200 في بيروت بينما 300 أبعثها إلى الجزائر.. في تصريح لصاحب الرواية، ألح أنه حقق أعلى المبيعات في المعرض، إذ وقع 600 نسخة من روايته؟ الكتاب كله لم يسحب منه إلا 500 نسخة فكيف يبيع صاحبه 600؟ مثال يبين إلى أي حد يكون فيه الوهم هو المتسيد.
قبل سنوات أنشئ جهاز يشبه المرصد، يتابع ما يباع في المعارض من كتب متنوعة لمعرفة اهتمامات القارئ، بالتنسيق مباشرة مع دور النشر، اعتمادًا على الوثائق، والمتابعات الإعلامية.. واستطاع أن يخرج بنتائج قريبة من الحقيقة وهي ثمرة لجهود مسبقة.. للأسف هذا الموصد بدل أن يتطور ويتوسع إلى المعارض العربية، انتفى نهائيًا من مشهدية المعارض.. الحقيقة المرة هي أن الناشرين لا يحبونه لأنه يبين الوضعية المأساوية التي يعيشها الكتاب العربي طباعة ونشرًا وتوزيعًا ودعاية ومقروئية.