انتقدت في مقالي الماضي خطيب العيد وموقفه من عمل المرأة، ودعوت لمراقبة هذا "الخطاب" في المساجد، وفي أماكن التأثير الأخرى.. ودافع دعوتي أني أنشد التغيير، وأريد له أن يحدث بالفعل.
لقد كان موضوع النقاش والجدل (الذي أثاره كلام الخطيب) يدور حول عمل المرأة، وأنا مع عمل المرأة، كما كتبت وقلت في مناسبات عدة.. أنا مع ولايتها لنفسها، ومع قدرتها على تحديد مصيرها، ومع مساواتها بالرجل في حقوقها المدنية وفي واجباتها ومسؤولياتها الاجتماعية.. لكني لست معها لأن لدي ميولاً نحو تفضيل "جنس" النساء على الرجال لا سمح الله، أو لأني مؤمن بتفوق العرق "الناعم"... بل لأني أؤمن -ببساطة- أن كل إنسان يجب أن يحصل على حقوقه لكي يمكن أن نطالبه بدوره الاجتماعي.. أتحدث هنا عن الدور الحضاري الذي يقوم به الأفراد في بناء أوطانهم وتنميتها، وفي مواجهة التحديات التي تواجه المجتمعات بمختلف مصادرها.
وهذه التغييرات التي تدفع باتجاهها الدولة (في قضايا المرأة مثلاً) تتسق مع فكرة الوطن بمفهومه الحديث، ومع بناء الدولة المدنية المنشودة.. فالمجتمع الحديث يقوم على مشاركة الرجل والمرأة في الفضاء العام بصورة أكبر بكثير مما كان عليه الحال في القرون الوسطى على سبيل المثال.. ولكي تكون هذه المشاركة ممكنة وفاعلة في مسيرة التنمية يفترض أن يكون للمرأة حريتها وأن تعطى حقها الكامل في الاختيار: في العمل، والدراسة، والتنقل، والسفر، والحياة (مستقلة أو مع شريك من اختيارها)... وغير ذلك. (لاحظوا أن هذه الأمور مضمونة للرجل في مجتمعنا.. "إلى حد ما".. وأشدد "إلى حد ما"!).
"نقطة.. ومع بداية السطر".
بعد أن قلت هذا الكلام -الذي قد يسقط على مسامع بعضهم/وبعضهن مثل موسيقى بيتهوفن، وعلى مسامع آخرين كـ"هوشة" عمّال في سوق الحدادين- لا بد أن أقول إن عمل المرأة هو الطريقة الوحيدة لإنصاف الرجال.
فحين تعمل المرأة تحقق ذاتها بذاتها، دون الحاجة لإلصاقها برجل "مسكين" لتشعر بتلك الذات وتدرك قيمتها.. وحين تعمل المرأة تحقق استقلالها، فلا تصبح تابعاً لرجل بالضرورة، رجلٍ يملي عليها حياتها ويسيطر على قراراتها، ولا تكون عبئاً على كتف الغلبان مثل صندوق رمان يحمله في كل مكان وزمان!!
حين تعمل المرأة تحقق اكتفاءها الاقتصادي، وبذلك لا تصبح حاجتها لشريك حاجةً "مادية" في الأساس؛ فحين يكون للمرأة دخل ثابت يمكن أن يصبح الزواج رحلةَ مشاركةٍ حقيقية بين "عصفوريْ الكناري".. والعنصر الاقتصادي من أهم عناصر هذه الرحلة كما تعلمون (بالإضافة إلى الحب والاحترام والطموح... بطبيعة الحال). يفترض النظام المدني الحديث أن يتشارك الزوجان المهام والأعباء التي تفرضها الحياة الحديثة؛ وهذه المهام والأعباء اقتصادية واجتماعية وتربوية (وسياسية في بعض الحالات!!)، ودون عمل المرأة سيكون من الصعب -بل من المستحيل ربما- أن تصل العلاقة الزوجية إلى مرحلة توازن تضمن استمرارها.
يدي تحكّني بشدة لأسرد لكم عدداً من القصص العجيبة التي كتبت هذا المقال ليكون مقدمةً قبل سردها.. لكني مضطر أن أرحّلها لمقال الخميس المقبل. (تذكروا فقط أن مؤسسة الزواج لا تزال صامدة منذ فجر التاريخ باعتبارها الوحدة الأولى في بناء النسيج الاجتماعي). فتّكوا بعافية!