خلق الله تعالى الكون وهيَّأ له الظروف المثلى لحياة المخلوقات فوقه، واستخلف الإنسان ليقوم لإعماره على الوجه الأكمل الذي يحقِّق مرضاة الربِّ وخدمة الكون، امتثالًا لقوله تعالى في مُحكم كتابه: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ﴾.
يقدِّر علماء الجيولوجيا والآثار وجود الإنسان على كوكب الأرض بنحو ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف سنة.. مرَّ خلالها بالعديد من العصور التي طوَّرت قدراته العقليَّة والجسميَّةً إلى أن تمكَّن من الرسم والكتابة نقشًا على الحجر من نحو خمسة آلاف وثلاثمائة سنةً.. انتقل بعدها من العصر الحجري إلى عصر الرعي والزراعة؛ متجوِّلًا في أرجاء الأرض طلبًا للماء والكلأ.. ومن ثمَّ مع الانفجار السكَّاني، استقرَّ في الأرياف والمدن.
ولتنظيم حياة الإنسان وهدايته، أرسل الله العديد من الأنبياء والرسل إلى من عمَّروا هذه الأرض من البشر كافَّة هادين ومبشِّرين.. وكان لجزيرتنا العربيَّة شرف اختيار بيته الحرام في مكَّة المكرَّمة.
هنا يضع التاريخ فاصلة حضاريَّة لما قبل رفع نبي الله إبراهيم عليه السلام قواعد البيت الحرام في مكَّة المكرَّمة وما بعد ذلك..
وقد حمَّل الله التوراة رسوله موسى عليه السلام لهداية بني إسرائيل.. ومن بعده بعث رسوله عيسى عليه السلام بالإنجيل ليصحِّح عقيدة بني إسرائيل ممَّا دخل عليها من تحريف.. وشرَّف العرب باختيار نبيِّنا محمَّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام هدًى ورحمة للعالمين، وخاتم الأنبياء والرسل، منزلًا عليه القرآن الكريم نهج حياة كريمة، فانتشرت عقيدة الإسلام في أصقاع المعمورة.
وهنا يضع التاريخ علامة فارقة أيضًا لما قبل البعثة النبويةَّ في مكَّة المكرَّمة، وهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنوَّرة مقيمًا فيها دولة العدل والتعايش والسلام.. وما تلا الهجرة المباركة من عصور، أقام المسلمون خلالها حضارات في المشرق والغرب أثرت العلوم والمعرفة.. وما تزال خيراتها ترفد لغاية اليوم العلماء والباحثين على تعدُّد أعراقهم ودياناتهم ولهجاتهم في أرجاء العالم.
وثَّق المسلمون أحداث هذه المرحلةً وما تلاها بتقويم قمريٍّ اختار الخليفة الراشد عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه لبداية العمل به يوم الهجرة المباركة من مكَّة المكرَّمة إلى المدينة المنوَّرة.
ويحتفل المسلمون الذين يزدادون عددًا سنة بعد سنة بمرور 1441 سنة هجريَّة على الأخذ به لتوثيق أمور حياتهم، مستعيدين من موثِّقي التاريخ القرون المعطاءة، وتلك التي تخلَّف فيها القوم عن ركب العطاء، تاركين القيادة لأحفاد من طلبوا العلم في مناراته التي ارتفعت عاليًا في المدينتين المقدَّستين؛ مكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَّرة، كما في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة... محقِّقين الكثير من التفوُّق والعطاء في أفق اليوم، فنرى صحوةً حضاريَّة في جزيرتنا العربيَّة بعد سبات طال أمده تبشِّر باستعادة بلد الحرمين الشريفين ريادتها للعلم والتعليم، ويؤمل منها خير عميم مع إنجاز رؤية 2030 التي بدأ تطبيقها رافعة كفاءة أبناء هذا الوطن وقدراتهم في اكتساب علوم العصر لتوفير حياة كريمة لجيل اليوم والأجيال القادمة، وما سيتبعها من خطط تنميةً في عهد مملكتنا الميمون ترشيدًا وتأكيدًا وتجسيدًا عمليًّا لقوله تعالى: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.