• لو سألتَ عضواً في أي تنظيم سياسي أو طائفي أو عقدي؛ أو حتى فريق رياضي عن سبب انتمائه؛ لأنشد لكَ مُعلَّقات من البكائيات والمظلوميات التي يراها تُعزِّز موقفه، وموقف فريقه الذي يراه يقف على قمة الصواب؛ وكل ما عداه في منطقة الخطأ المطلق!. العجيب أن هذا هو شعور كل الفرقاء المختلفين!.. والأعجب أنه لا يقف على الجهلة والبسطاء المُغرَّر بهم، بل قد يأتيك أحياناً من قِبَل الذين يُفترض أنهم نُخب ثقافية، وصُنَّاع للرأي والوعي العام!.
• المظلومية شعورٌ إنساني شائع فردياً وجماعيًا، سببه الأساسي المقارنة غير الصحيحة وغير العادلة، فغالبية الناس، تدّعي أنها ليست في مكانها المناسب، وأنها لم تأخذ حقها، وأنها قد أُوذيت وظُلمت من الناس! وهذا ما ينسحب على الجماعات التي قد يُوحِّدها نفس الشعور بالمظلومية، والاعتقاد بالاضطهاد ونقصان الحقوق، والتآمر عليها، وهذا شعور خطير، لأنه يكبح الوعي والإدراك، والبحث عن الحقيقة!
• نظرية المؤامرة هي جواب سهل لسؤال صعب عند الإنسان: “لماذا تسير كل أو غالبية الأمور ضدي؟”.. وتعزز الواقعية الساذجة هذا الشعور الخاطئ لدى البشر وتدفعهم نحو الإصرار على الخطأ. والواقعية الساذجة في أبسط تعريفاتها تعني «الإحساس الواثق للعقل بامتلاك الحقيقة المطلقة، بدلًا من وضع آراءنا ومعتقداتنا موضع التساؤل والتحليل».. و خطورة هذه الواقعية الواهمة أنها تقنع صاحبها بأنها جاءت بعد تحليل عميق وموضوعي ودون تحيُّز، لذا تجد صاحبها مقتنع بها ومدافع عنها بشراسة، واصفاً مخالفيه بالتعنُّت أو بالجهل والشطط. (هل يُفسِّر لك هذا سبب عقم بعض جدالاتنا المذهبية والعقائدية والأيديولوجية والتي لا تفضي في الغالب إلى شيء؟!).
• تختلف تفسيرات البشر للقضايا باختلاف خبراتهم وثقافاتهم، مما يبني قناعات وآراء مختلفة تنتج ألف وجه للحقيقة، وألف استنتاج لنفس المعطى!.. والكارثة أن كل طرف يتزمَّت؛ ويُؤكِّد أن ما يراه هو الحق الأوحد، غير مدرك لحجم التفسيرات المشوّشة التي قام بها عقله، وغير مدرك أيضاً أن ثمَّة وجوه أخرى للحقيقة، ربما تكون أكثر صحة ودقة من استنتاجه.
• ولأن العقل كما يقولون يحتله الأسبق وليس الأصوب بالضرورة، فإنه قد يكون خادعك الأول، حين يُصوِّر لك أن ما تراه هو الحقيقة، بينما الحق أن ما تراه هو نسختك الخاصة من الحقيقة، التي بناها عقلك اعتماداً على خلفيتك المعرفية التي تشكَّلت من التعليم والإعلام والمجتمع والثقافة والديانة، وكل مصادر التعلُّم في مجتمعك.. وهذا ليس قصراً كما قلنا على البسطاء وغير المتعلمين، فكثير من السياسيين والاقتصاديين وكبار المثقفين يستميتون دفاعاً عن واقعيتهم الشخصية الساذجة، بل إن بعض المنظمات الدولية الكبيرة -كالأمم المتحدة ومجلس الأمن- كثيراً ما تقع قراراتها في الظلم والتعسف نتيجة اختلاف الرؤى والقيم والثقافات!.
• ليس صحيحاً أن كل شيء يسير ضدك.. الصحيح هو أن التحيُّز لتفسيراتنا واستنتاجاتنا المبنية على خلفياتنا المذهبية والسياسية والاجتماعية هو ما يضرب عقولنا ويصيبها بالتكلُّس والتعصب.. وهذا مرض تسبَّب في جمود مجتمعاتنا العربية وتصلُّبها واقتتالات بعضها الداخلية.. ويمكنك بكل سهولة قياس حجم الخلل والخطأ المعرفي في العقل الجمعي لأي أمة، من خلال قياس نصيبها من بيئات التعليم الرديء، والإعلام المُوجَّه، والثقافات الضحلة.