قد يبدو الأمر غريبًا، ولكنه حقيقة نراها ونقرأها ونلمسها، كل يوم في الأوساط الثقافية والجامعية العربية تحديدًا.. وحتى لا نكون مجحفين، نقول إن النقد الأكاديمي العربي محكوم اليوم بتصورين واضحين، لا ثالث لهما.. نقد مسؤول عن كل كلمة يقولها، يعتمد القراءة الدقيقة والأدلة العلمية قبل الإقدام على أي حكم، يركز في عمله على الجهد المعرفي الواسع، وسبل الإقناع، حفاظًا على النعت الذي يحمله: الأكاديمية.. لأن مفردة الأكاديمية ليست كلمة بدون معنى ولكنها تخفى وراءها المعرفة والموضوعية حتى ولو كان الاختلاف الإيديولوجي والسياسي حاضرًا، لكنه يقع خارج الأحكام المشروطة بالنصية أولا وأخيرًا وإيحاءاتها.
تقرأ تحليلا أكاديميا لرواية، نسحر بالقول وبالقدرة على الاكتشافات التي تغيب عن القارئ العادي.. لا نتوقف عن إبداء الإعجاب بالقدرة الإقناعية والتخييلية المتوفرة لدى الناقد.. لا زوائد ولا حذلقة، ولا استعراض عضلات، كل شيء في مكانه، وربما هذا ما يجعلنا نقول إن النقد الأكاديمي لم يفقد بعد مساحاته الجمالية والموضوعية، وخاصياته العالية.. لكن للأسف من نفس رحم الأكاديمية يخرج من حين لآخر علينا ناقد أو ما يسمى تجاوزًا كذلك، ويغرقنا في مصطلحية هو نفسه لا يعرف معناها، ولأن محمولها متخفيًا وراء الأكاديمية التي أصبحت في الكثير من حالاتها لباسًا فضفاضًا أكبر وأوسع من صاحبه.. وكلما تم تغييب الوضوح المعرفي، ظهر جليًا ضعف الكتابة النقدية.
الناقد ليس من يملك قاموسًا من الشتائم، ويكرر نفس الأسطوانات التي أصيبت إبرها بالتآكل.. لو غيرنا أسماء الروايات التي يدرسها، لوجدناه يحكي نفس الكلام وكأنها مجموعات تراكيب أصبحت كأنها محفوظة تخرج في كل لحظة وتدفعك إلى التساؤل: أين قرأت هذا الكلام؟ لتكتشف أن الصيغ المكرورة تتحرك بين رواية وأخرى دون أن تترك أي أثر جمالي في نفسية القارئ.. بل بنفس المقاربات إذا كانت هناك مقاربات؟ بالمعنى العلمي.. كأن لا يفرق الناقد بين نمطين من الرواية مثلا، الرواية الخطية كما عند الجيل الكلاسيكي من الكتاب العالميين الفرنسيين والإنجليز والأمريكان، والرواية اللولبية، التي يختار أصحابها غير السرد الخطي، كأن يبدأوا النص من نهاية أحداثه، وهم بهذا يقتلون فضول القاريء؟ إذ وضعوا أمامه النهايات كلها، فماذا إذن قراءة الرواية؟ لكن سؤال القارئ أو فضوله الإبداعي يرتكز على منطق آخر، وهو كيف تم ذلك كله؟
من يقرأ رواية غابرييل غارسيا ماركيز «قصة موت معلن»، سيكتشف أن الجهد الإبداعي كله كان في بنية النص وليس في الخطية التي لم تكن هاجسًا من هواجس ماركيز في تلك الرواية.. فقد كتب نصًا تراجيديًا بامتياز، شبيهًا بالتراجيديات التي كتبها شكسبير.. بنيت الرواية على حادثة قتل جوزيف نصار، المتهم بالاعتداء الجنسي على فتاة قبل عرسها، يصمم أخواها على قتله، لكنهما يعملان جاهدين على إيصال الخبر له حتى يهرب.. ويعلمان كل من التقيا به بأنهما متوجهان لقتل جوزيف نصار.. لكن القدر كان قد خط مصير هذا الأخير.. وتتحول بوابات النجاة إلى مساحات موت.. ويقتل الشاب، لأنه كان يجب أن يموت.. وضعنا ماركيز منذ البداية أمام حالة منتهية، لكن القارئ لن يشعر بأي ملل وهو يتابع أحداث الرواية.
طبعًا الأكاديمية الأمية ستذهب نحو إقصاء الرواية كليًا لأنها أفسدت متعة القارئ.. وبدل قراءة خيارات الكاتب، يفرض عليه مسلكه حتى تكون الرواية ناجحة، لدرجة أن تتساءل لماذا لم يكتب هو الرواية وينتهي الأمر؟ يتحول النقد إلى مساحة انتقامية تشبه داخل الناقد، أكثر مما تشبه الكاتب، صاحب النص الحقيقي.. وهذا يعكس للأسف، جهلا متفاقمًا في النقد العربي اليوم.. لهذا أقول دائمًا ليس كل من حمل دكتوراه هو بالضرورة ناقد أكاديمي؟