Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
واسيني الأعرج

شيء عن الفن والدين

A A
كما كان يقول القاضي الإمام ابن رشد في فصل المقال، إن طريق الدين يختص به أهله، وطريق الحكمة، الفلسفة، أي كل ما يتعلق بالمنتج الفكري البشري، يختص به أهله أيضًا.. بمعنى، أنه لا يمكن الجمع بينهما دون إقصاء أحدهما للآخر.. وهذا التفريق حدد فضاءات العمل الديني والفكري.. من يحكم على جودة الفيلم أو رداءته مثلا، أو الكتاب، أو اللوحة الفنية؟ رجل الدين لا يستطيع أن يحكم إلا في الحالات النادرة التي تسمح له بمعرفة الفن أو ممارسته.. الفيلم الذي يستفز الناس خارج لغة الفن، وسيطرة الابتذال لا يحتاج لرجل دين، سيرفضه السينمائي تلقائيًا لأنه لا قيمة فنية له، ويستثير الغرائز.

النص الروائي أيضًا، هو عبارة عن بنية كما الصورة، وهذه البنية يجب فهمها في عالمها وسياقاتها الفنية.. الكثيرون يحرّمون مثلا الرسم التشبيهي؟ وهو إشكال لا يستند على نص واضح وحاسم.. أي تشبيهي؟ لا يمكن، لأنه لا روح في الرسم أو التمثال الذي لن يكون صنمًا بانتفاء عنصر العبادة، وتعويضها بالذائقة الفنية، بالمقاييس الدقيقة التي ترتقي بالإنسان نحو حالة من التجريد العالية.. ما قيمة الفن إذا خلا من بعده الإنساني النبيل؟ من يتربى على الفن، يتربى على حب الجمال وتقديس الحياة، وهل هناك قيم مقدسة عند الله أكثر من الحياة نفسها؟ النفس الممتلئة ألوانًا ونورًا، وثقافة فنية ليست مثل النفس الجافة التي تنشأ داخل الظلام.. المظلم داخليًا لا يرى شيئًا من إبداعات الخالق إلا ما يتخيله هو من خلال حالة انغلاقه... البحر أزرق.. الطبيعة خضراء.. الورود بشتى الألوان.. السماء نيلية بكل تدرجاتها المدهشة.. من ينقلها لنا غير الفنان ويدخلها في أعماقنا كقيم جمالية غير الفنان؟ ينطبق هذا على البالي والموسيقى والمسرح وغيرها من الفنون.

عندما تصبح المدن في أيدي المظلمين داخليًا، تنسحب الحياة منها، ولا مكان فيها إلا للجهل والأوامر والرماد.. حتى الحياة الرمزية والتاريخ ينسحبان لأنه لا مكان لهما..

ما حدث في أفغانستان مثلا قبل سنوات، حيث تم تدمير التماثيل البوذية، في ثانية واحدة تحول جزء من تاريخ أمة إلى رماد، ومُحيت قرون من الفن والحضارة والفكر والتأمل الإلهي والطبيعي، في صمت عالمي مطبق باستثناء صرخات رافضة من هنا وهناك، لا قيمة عملية لها.. ما حدث من نهب لمتحف بغداد التاريخي، في مشهدية عالمية إجرامية، كان الجيش الأمريكي مشرفًا عليها، إذ اشترك في نهب محتويات المتحف عن آخرها.. في البصرة ثم تدمير قرون من الحضارة البابلية والآشورية في متاحف المدينة، بشكل هستيري لا يسنده أي خطاب ديني حقيقي.. في تومبوكتو حدث الشيء نفسه من حرق، وتدمير، وبعثرة للمخطوطات التي يعود عمرها إلى قرون قديمة، ومحو أي أثر للإنسان المتعدد ثقافيًا والاحتفاظ بصورة طقوسية شديدة الجفاف والفقر.. معالم مدينة تدمر التي تم نسفها، بينما لم يتجرأ واحد على لمسها على مدار القرون الماضية.. متحف الباردو في تونس، لم يسلم من هذه الآلة المدمرة التي تتخفى وراء الدين، والدين كقيمة متعالية منها براء.

ويبدو في الظاهر أن المسألة متعلقة بالفن والدين والصراع بينهما، بينما الأمر في جوهره، يتعلق بالجهل الكلي للدين ولوظيفة الفن.. هناك تجريد كلي للنص الديني الكريم من كل روحيته العميقة، من خلال تأويل خال من أية أبعاد إنسانية وحضارية.. كثيرًا ما طرحت القضية من خلال مفهوم متضاد غير صحيح.. فيتم التعامل مع الفن وفق تصورات جامدة، لا ترقى بالرؤية الدينية إلى الأعلى والاتساع والتخييل.. يبقى الفن في النهاية مجرد قناع ينجزه الفنان ليعبر من خلاله عن الحياة وقيمها.. وكثيرًا ما يعتمد على التخييل والتجريد، والمحاكاة.. ندخل اليوم إلى المتاحف العالمية ونحن خارج دائرة التشبيه الإلهي وفي عمق الجهد الإنساني الجمالي.. الصورة تظل صورة في النهاية، مهما كانت دقتها وموهبة مبدعها.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store