كما لو كنت أهبط في محطة «كمشوش» في الطريق لمنوف، قفزت من باب القطار المتجه من باريس إلى جرينوبل، يدفعني الحنين إلى عشقٍ قديم!
كنتُ في طريقي لإنجاز مهمة صحفية جنوب فرنسا عندما لمحت قطيعًا كبيرًا من الأغنام يمضي بتناغم يفوق الخيال صوب جبال الألب.. كان الراعي فيما يبدو ينتظر مرور القطار قبل أن يعبر بأغنامه للجهة الثانية!
والحق أن المشهد الجميل أعادني إلى شارعنا الطويل؛ الذي كان يخرج منه كل صباح قطيع أغنام «الهلايلة»، فيسدّه تمامًا بدءًا من «فراندة» البيت القبلية وحتى «البركة»، حيث يقف العم سالم في المقدمة، والعم جودة في مؤخرة القطيع «اللم» الذي يملأ المكان صخبًا وغبارًا درجنا عليهما، وأصبحا طقسًا يوميًا في عمرنا!
خرجتُ من ساحة المحطة وأسرعتُ الخطى نحو قطيع الأغنام في الريف الفرنسي، وأنا أهشُّ بقلمي، لعلَّ الراعي يلمحني!
كنتُ واثقًا أنه لن ينفر مني، فثمة ما يربطني به ويربطه بي.. وقد كان! قال لي: من أين؟! قلتُ من مصر.. من دلتا النيل.. وعلى مسافة ليست ببعيدة من محطة القطار افترشنا الأرض.. وما أجملها من أرض!
كانت المروج الخضر بامتداد البصر، فيما تحلّق فوقنا وفوق الأغنام الطيور، مؤكدة ومحيية وحدة الإنسانية وبهجة الكائنات! ورغم جمال جبال الألب ونظافة الأغنام ورائحة الزهور فقد قفز لذهني مشهد قطيع «الهلايلة» ليفرض نفسه على المكان!
لم يكن الراعي الفرنسي الأنيق يرتدي جلبابًا صوفيًا كالعم سالم بقامته الطويلة، ولم يكن قصير القامة كالعم جودة، ولم يكن راكبًا لحمار مثل العم محمد محمود، أو ممسكًا بمغزل كالشيخ عبدالجيد! لكني لمحتهم جميعًا على شاشة الذاكرة، وهم يُمارسون سعيهم هناك في المنوفية، وحقول القرى المحيطة بها!
سألني الراعي الفرنسي عن وجهتي فقلت: إلى «جرينوبل»، قال بعذوبة متناهية: هل تعرف العنوان؟! قلت: نعم! قال: سعدتُ كثيرًا برؤيتك، وأتمنى لك التوفيق في مهمتك!
لحظتها شعرتُ بالحنين، وتذكَّرت قول حكيم: الحنين من رقة القلب، ورقة القلب من الرعاية، والرعاية من الرحمة، والرحمة من كرم الفطرة.. تذكَّرت وجه العزيز شوقي علي أحمد، والعم إبراهيم غريب ومضيت!
أنهيت مهمتي في جرينوبل، وحين صعدت إلى القطار مساءً في رحلة العودة، أسندت رأسي على المقعد الوثير، فيما تقفز أمامي مشاهد حية من قصة رعي الغنم في الرملة، وكأنها حدثت بالأمس!
تبسط «عزيزة» ذراعيها عند الباب، فإذا اشتمت رائحة غريب نبحت وبدأت تحفر بأظافرها في التراب.
ها قد بدأت الرحلة.. هذه نعجة تمرق بين القطيع، يفسح لها الجميع، فقد سمعت صوت صغيرها الشارد فخافت أن يضيع! وتلك لم تسمع، لكنها منذ الخروج في الصباح تشعر بثمّة وهن أصاب صغيرها المسكين، فهرعت إليه بأقدام الحنين!
صورة عبدالمجيد والمغزل في يده يُحرِّكه برشاقة فنان، فلا يكف عن الدوران، وصوت العم «سالم» وهو يخبرنا أفضل مراعي الأرض وأصوات وحوش الجرد.
يحنو العم «جودة» على تيس دائم الزمجرة والغضب.. يظل يُعربد بين بقايا شجر مخلوع وتراب أجرب، فيربت على ظهره حتى يهدأ!
أواه يا تشقق النعال.. من كثرة السعي والترحال.. تغريبتكم.. صبركم.. شهامتكم تستحق ألف مقال.. أقدامكم التي لم تعرف الهزال.. تخضر المراعي.. وقلوبكم معها تخضر.. فرحًا ببقايا عرش بطاطس أو ما تبقى من جذور برسيم.. تصرخون فرحًا أو طربًا، وتتحول نداءاتكم على أغنامكم، ألحانًا وتقاسيم.
كان القطار يقترب من محطة باريس وأنا أُردِّد قصيدة أبي القاسم الشابي: (اتبعيني يا خرافي بين أسراب الطيور.. واملئي الوادي ثغاءً ومراحًا وحبور.. واسمعي همس السواقي وانشقي عطر الزهور.. وانظري الوادي يغشيه الظلام المستنير).
وحين زرتُ مصر في الصيف الماضي، كان الراعي الأنيق بلال يتقدَّم نحوي معانقًا، يتبعه صديقه خالد، وأنا أُردِّد في الهواء الطلق بمقطع الرمل: لك في الغابات مرعاك ومسعاك الجميل.. ولي الإنشاد والعزف إلى وقت الأصيل.. فإذا طالت ظلال الكلأ الغض الضئيل.. فهلمّوا نرجع المسعى إلى الحي النبيل!