قضية مهمة ومرض اجتماعي خطير مستشرٍ في المجتمعات منذ بدء الخليقة إلى الأرض، ويُقال إنه بدأ في السموات في حسد إبليس لآدم وبعد ذلك حسد قابيل لهابيل، وقد رأينا أيضاً حسد أُخوة يوسف له وتحذير سيدنا يعقوب لأبنائه من ضرورة عدم الدخول من باب واحد، وغير ذلك من القصص العديدة في العهد الماضي والعهد الحاضر. كل الدراسات أكدت أن العين هي الأداة التي يُؤثر بها الحسد من خلال خروج ما يسمى بالشعاع غير المرئي وما يسببه من آثار مدمرة على المحسود، يُشبهها البعض بأشعة الليزر التي يستخدمها الجراح في العمليات الجراحية. هناك من اجتهد في وصف الحاسد حالة حسده بأن عينيه تخوصان ووجهه يصغُر ويحرص على الإعراض عن المحسود فهو يستثقل حديثه وكلامه وبعضهم تنتفخ أوداجهم إلى آخر ماذكر. لعل من نافلة القول أن نذكر أن الحسد سبب رئيسي لأمراض خطيرة وبلاءات اجتماعية متعددة فضلاً عن ما يسببه من عداء وكراهية وبُغض وغل، لهذا نهى الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم عن كل ذلك في قوله (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً)، واعتبر سيد البشرية الحسد بأنه داء عظيم (دب إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء..)، وفي سورة الفلق التعويذة المعروفة (ومن شر حاسدٍ إذا حسد) وفي سورة النساء قوله تعالى (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله).
وقد بيَّن الإمام الغزالي -رحمه الله- حقيقة الحسد فقال: أما الحسد، فهو متشعب من الشُح، فإن البخيل هو الذي يبخل بما في يده على غيره، والشحيح: هو الذي يبخل بنعمة الله وهي في خزائن قدرته لا في خزائنه. والحسود هو الذي يشق عليه إنعام الله من فضله على عبدٍ من عباده بعلمٍ أو مالٍ أو محبةٍ في قلوب الناس أو حظٍّ من الحظوظ حتى أنه يحب زوالها عنه، ولذلك قال سيد البشر عليه الصلاة والسلام: (الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب).
ويقول الجاحظ: (الحسد -أبقاك الله- داء ينهك الجسم ويفسد الود، علاجه عسر، وصاحبه ضجر، وهو باب غامض، وأمر متعذر، فما ظهر منه فلا يُداوى، وما بطن منه فمداويه في عناء).
وهناك من يربط بين الحسد والباطل ويبين أنهما متحالفان، وهاتان صفتان من أسوأ الصفات ومن أردأ الخِلال التي حالفها الحسد. هناك حسد مذموم للغاية وهو حسد العالم والمثقف وهذا أشد خطراً وأكثر ضرراً من حسد الجاهل. ومن الحسد المحمود للمتعبد آناء الليل والنهار والآخر من آتاه الله مالاً فأنفقه في سبيل الله وعمل الخير في الليل والنهار فهنيئاً لهما وبئس الحسد فيما دون ذلك والعياذ بالله.
ولعلنا نتوقف قليلاً مع ما قاله الخليفة عبد الله بن المعتز:
اصبرْ على حسدِ الحسودِ فإن صبرك قاتله
فالنارُ تأكلُ بعضَها إنْ لم تجدْ ما تأكله.
ووقفة أخرى مع قول أبي تمام:
وإذا أراد اللهُ نشرَ فضيلةٍ طُويتْ أتاح لها لسانَ حسودِ.
لولا اشتعالُ النارِ فيما جاورتْ ما كان يُعرفُ طِيبُ عَرفِ العودِ