أنهيت مقالي الأسبوع الماضي بعدد من الأسئلة حول حركية العلاقة بين الثقافة والآلة، ولعلي أفتتح مقال اليوم بسؤال جدلي مفاده:
- هل ينقص الآلة الذكاء الإنساني فعلاً؟
كيف يمكن أن نجيب بـ(نعم)، ونسلم لهذه الإجابة، والآلة تستعير ذكاء الإنسان لتتفوق عليه، ولتصبح أذكى منه.. فحين أصبحت الثقافة خصماً يقف أمام سيطرتها وخططها التوسعية، غيرت الآلة تكتيكاتها لتصبح أكثر فعالية بحيث تحتوي الثقافة وتحتوي الأدب، وتصبح صديقة حميمة لهما؛ فظهرت الآلة الكاتبة، ثم ظهرت المطبعة لتستغل نقطة الضعف الأقوى لدى الثقافة ولدى الأدب: وهي الناس.
تحبُ الثقافةُ الناس، وتعيش بهم ومعهم، ويستمر الأدب ويزدهر بالشهرة وبكثرة القراء المتفاعلين معه.. من هنا يعد المؤرخون ظهور المطبعة أحد أعظم الأحداث في تاريخ البشرية.. يقول بوكانان: «لقد غمر أوروبا طوفان من الكتب من جميع الأشكال والأحجام تتناول كل الموضوعات التي يتصورها العقل.. أمكن بفضل هذه الوسيلة تواصل حجم هائل من المعلومات بين الناس سواء على مستوى الأفراد أو من أنشطة جماعية».
هذا صحيح بالفعل، لكنه أيضاً اعتراف ضمني بزيادة سطوة الآلة.. ثم جاءت فكرة الاتصال، وهي فكرة بشرية بحتة، رغم أن الكلمة هذه الأيام بالكاد تشير إلى أي دلالة بشرية.. أعني أن كلمة (اتصال) في السياق الاجتماعي عالمياً تشير في الغالب إلى الاختراعات التقنية والتكنولوجية.. لكن التاريخ يحفط أن الاتصال بمفهومه الأساسي بدأ مع الإنسان، والإنسان جزء رئيس من عملياته (عملية الاتصال)، لكنه -مع كل تقدم في البحث والتحليل والإنتاج- كان يفقد شيئاً من صلاحياته، ويتنازل بها لصالح الآلة؛ فأصبحت الهواتف -على سبيل المثال- لاعباً مهماً في عملية الاتصال، بل أضحت مرادفاً للاتصال وشرطاً لحضوره.. وجاء المذياع، ثم جاءت الشاشة ليأخذا مكانهما في هذه العملية؛ فالمطبعة تطبع الكتب، وتوزعها بين مئات المدن وآلاف القراء، والمذياع والشاشة ينشران أخبار الفن والأدب، ويسوقان للأعمال الفنية والأدبية ويستضيفان نجوم الفن ونجوم الأدب، وهكذا.
ثم ظهر الحاسب، كآلة مختلفة نوعياً تضيف بعداً شخصياً، يعطي الفرد صلاحيات أكثر ومساحة أكبر للمشاركة والتفاعل.. وتُوج ذلك بالاتصال الشبكي (الانترنت) الذي فتح الباب على مصراعيه لحالة من الانفجار التكنولوجي، والتشظي الاتصالي، لا نزال نعيش في خضمها، ولا نعلم -حقيقة- إلى أين ستأخذنا.
غيرت الآلة من طريقة تفكيرها، واستدارت حول الإنسان لتسخّر ذكاءه لصالحها، وتستثمر غريزته الاجتماعية للاتصال بالآخرين، فأصبحت تساهم بقوة في تحديد مصيره وتغيير مفاهيمه.. يجلس الإنسان وحيداً معزولاً أمام الشاشة مؤمناً أنه متصل بالعالم أجمع؛ تحتكر الآلةُ الاتصالَ الذي ينطلق من غريزة الإنسان للبقاء على احتكاك مع الآخر، لتعزله تماماً عن ذلك «الآخر» أحياناً.. هذا لا يكون في غرفة المكتب فقط، بل في المكتب، والقطار، وفي الحدائق والمطاعم، وفي كل مكان.. لقد أصبح مشهداً معتاداً هذه الأيام أن نشاهد عائلة في مطعم ما –مثلاً- لا يلتفت أحد أفرادها للآخر، ولا يخاطبه.
تحولت الآلة –إذن- من مجرد أداة في يد الإنسان إلى نظام يتحكم في مصيره، ويحدد أولوياته، ويطوع قيمه الاجتماعية والثقافية، ويغيرها إن احتاج الأمر.. فالاجتماع يستحيل أمراً معنوياً أكثر من كونه مادياً، والاتصال –والتواصل- مع العالم يكون بالعزلة والانغلاق والفردانية.. وهكذا تترك التقنية بصمتها على المجتمع، وعلى الثقافة، ولا يسع الأدب أن يكون استثناءً.. هذا الأدب الذي كان يعده ماثيو أرنولد المنقذ للبشرية من الغزو الآلي، لم يستطع سوى التسليم أمام غواية الآلة وسطوتها.. في البدء استسلم لحيلها، حين توّجته بالشهرة والانتشار، ثم تسللت شيئاً فشيئا لتلعب أدواراً أخرى.