يُخطئ بالقول مَن يرى أن المباني الشاهقة والشوارع الفسيحة، والمطارات الضخمة، والقطارات الحديثة السريعة، والتقنيات المتقدِّمة المستخدمة في كل منحى من مناحي الحياة، أنها وحدها معيارٌ للحضارة، تقوم على أساسه حضارة الشعوب، فهي مُجرَّد مُنتَج من مواد اجتهد في وضعها البشر، وموّلها المال الضخم، وقد تزول أو تتهاوى دون سابق إنذار، لأي سببٍ كان. لكن الحضارة الحقيقية هي ما تتمثَّل في ذلك الفكر الناضج الواعي، المُدرك لكافة حقوقه وواجباته، ذلك الفكر الذي استطاع أن يُبدع في صنع تلك المواد، لتكون منتجاً ينفع به نفسه، والعالم من حوله، والمُتمثِّل في التمسُّك بالقِيَم الفاضلة التي تُسهم في تكافل وتحابب وتعاون وتراحم البشر الذين يعيشون خلف تلك المخرجات المذكورة، فلا تجد الحقد والكراهية، ولا الحسد والنميمة، ولا الغيبة والبهتان، ولا الكذب والظلم.
كما تتمثَّل في التزام المتعاملين مع بعضهم البعض؛ بالأنظمة والقوانين المحلية والعالمية، كالاهتمام بالمحافظة على النظافة العامة، فلا تجده يقذف بالقاذورات والأطعمة في غير محلها المُخصَّص لها، ويلتزم بأنظمة السير كما حدَّدها النظام، فلا يسير بمركبته في غير المسار المُحدَّد له، ولا يتجاوز بعشوائيةٍ وفوضويةٍ المنتظرين عند إشارات المرور، فتراه يقذف بسيارته أمام الجميع في مُقدِّمة السير، دون تقدير لمشاعر الملتزمين بالنظام.
كما تتمثَّل الحضارة في التزام الناس بالنظام التزاماً ذاتياً، دون الخوف من العقاب، ومن خلال عدم التعدِّي على حقوق الآخرين، وعدم سلب أموال الغير، وخاصة الأموال العامة، وعدم الغش في التجارة والمعاملة، وفي المشاريع الحكومية، والإخلاص في العمل دون رقيبٍ أو حسيب، وليعلم هؤلاء العاملون بأن ما يقومون به ليس تفضُّلا منهم، بل خدمة واجبة عليهم، أخذوا المال مقابل القيام بها.
وتتمثَّل الحضارة أيضاً في تلك السلوكيات الحسنة التي يتفاعل بها الناس مع بعضهم البعض في معاملاتهم اليومية، من خلال تلك المبادئ القيِّمة التي يعيشون تحت مظلَّتها، كالعدل والمساواة.
هنا فقط نستطيع أن نقول: إن الشعب الفلاني شعب حضاري، حتى لو كان يعيش في قرية أو هجرة.. أما إذا كان العكس، فحتماً من الخطأ أن نُطلق على هذه الفئة بأنها فئةٌ مُتحضِّرة، حتى لو سكنت المباني الشاهقة، وركبت المركبات الفارهة.
والله من وراء القصد.