تنبه النقاد والمفكرون إلى ما يمكن أن تؤول إليه الأمور اعتماداً على تطور العلاقة المتبادلة بين الإنسان والآلة، وعلى التسارع التكنولوجي الذي يشهده العصر الحديث، ودخول التقنية كلاعب رئيسي في المشاهد الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. من أولئك المؤرخ الأمريكي والناقد المعماري شارلز جينكز الذي يرى أن مرحلة ما بعد الحداثة بدأت مع هدم مشروع (بروت-آيقو) السكني في سانت لويس الأمريكية منتصف سبعينات القرن المنصرم.. وهو مشروع بني بداية الخمسينات، ويعد رمزاً للتحول الحضري، ورمزاً لفشل التخطيط الحكومي، إذ تحول المكان إلى بؤرة للفساد الأخلاقي، وتجارة المخدرات، ورواج الشذوذ، ما جعله يتحول إلى خرافة حضرية لدى المجتمع الأمريكي.
جينكز يؤكد على أن ما بعد الحداثة (عمرانياً) تتلخص في فكرة تكاثر الصيحات الجديدة المتوالية، وهي فكرة تناقض موقف العصر السابق من مفهوم (التقليد)، وتفتح الباب أمام نوع من توافق تعددي للاختلافات.. هذا التكاثر يأتي بالطبع نتيجة للتغيرات الاقتصادية، وسيطرة نماذج متنوعة من الرأسمالية العالمية التي تتحكم في الإنتاج العالمي.. لذلك يرى فريدرك جيمسون -الناقد الماركسي- أن ما بعد الحداثة يمثل (الثورةَ الثقافيةَ) التي احتاجها المجتمع المعاصر ليتكيف ويتعايش مع التغيرات الاقتصادية التي فرضتها تضخمات الرأسمالية المعاصرة.
ويعد إيهاب حسن، الناقد الأمريكي ذو الأصول المصرية، مرجعاً مهماً لتعريف ما بعد الحداثة، وما بعد بعد الحداثة.. حيث كرس سنين طويلة لإنتاج عدد ضخم من الدراسات التي تتناول أعمالاً فنية وأدبية لفنانين وأدباء معاصرين، ليخرج فيما بعد بنظريته الخاصة بمفهوم ما بعد الحداثة.
إيهاب حسن يزعم أن ما بعد الحداثة مرحلة محصورة في سنوات محدودة خلال ستينات القرن العشرين حملت مجموعة من السمات التي تميزها ليس عن مرحلة الحداثة التي سبقتها وحسب، بل والمرحلة التي تلتها بعد ذلك (مرحلة ما بعد بعد الحداثة). لذلك هو يعد المرحلة صيحة معينة، أو حركة تشبه الدادائية والسوريالية، جاءت كردة فعل على أوضاع اجتماعية واقتصادية وسياسية، ويرى حسن -باختصار شديد- أن ما بعد (بعد) الحداثة تشير إلى ظاهرة كونية تفاعلية تقوم فيها القَبَلية - والإمبريالية، والخرافة والتكنولوجيا، والهوامش والمراكز بممارسة طاقاتها الصراعية غالباً على الإنترنت.. وهو يفرق بينها وبين (ما بعد الحداثوية) إذ يعتبر هذه الأخيرة ظاهرة ثقافية تشير إلى المجتمعات المرتاحة اقتصادياً، المجتمعات الاستهلاكية، المتطورة تكنولوجياً، والمحركة بالإعلام.
ومنذ بداية الثمانينات بدأ الناقد الماركسي تيري إيقلتون بالدعوة إلى فهم المرحلة الجديدة -مرحلة ما بعد الحداثة- وضرورة مراجعة قيم الكتابة الأدبية والنقدية، وفقاً لشروط المرحلة.. يرى إيقلتون في كتابه وظيفة النقد - المنشور عام 1984م أن الأدب بمفهومه الحديث تطور وازدهر في المقاهي والحانات والصوالين الثقافية والاجتماعية، وأنه فقد الكثير من وظائفه حين انغمس في الغرف الأكاديمية المغلقة.. الحل في رأيه يكمن في إعادة الأدب والنقد إلى مؤسسات المجتمع وميادينه، التقليدية منها، أو تلك التي استحدثت مع التغيرات التكنولوجية.