انتهى قبل أمس مؤتمر (الإعلام الجديد واللغة العربية) الذي نظمته كلية اللغة العربية بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة. لاحظوا أن «الإعلام الجديد» جاء في العنوان قبل «اللغة العربية»، ولعلَّ لهذا مدلولاً خاصاً، حين ندرك أن المؤتمر قد انطلق عن قناعة جلية بضرورة أن يقترب متخصصو اللغة العربية -بمختلف علومها- من عوالم الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي، ليتمكنوا من تأدية دورهم الحضاري بخدمة العربية، والتربوي بالتأثير في الأجيال لترسيخ أهمية اللغة العربية باعتبارها منارة الهوية، و»رأس مال مجرد في حاجة إلى أن يصونه أهله من كل ما ينال منه» -كما يُؤكِّد المفكر والناقد عبدالسلام المسدي-، فاللغة –كما يراها- هنا «كالأرض، كلتاهما مجلبة للأطماع، وهي أمانة على عاتق أصحابها».
ويضيف المسدي: «من المتعذر على أي مجتمع أن يؤسس منظومة معرفية دون أن يمتلك منظومة لغوية تكون شاملة، مشتركة، متجذرة، حمَّالة للأبعاد المتنوعة «فكراً وروحاً وإبداعاً». فاللغة هي الحامل الضروري لكل إنجاز تنموي، واللغة ركن أساسي في كل مشروع اقتصادي».
لابد من الإشارة في هذا السياق أن العلوم الإنسانية والآداب –واللغويات جزء منها- تواجه تحديات عالمية تبدأ من مساءلة دورها الذي تُقدِّمه في هذا العصر، إلى التشكيك في أهميتها وجدوى بقائها، وهي تحديات يقف خلفها عدة عوامل، لعل من أهمها سرعة التطورات في تقنيات الاتصال، التي أدت إلى خلخلة قناعات وقيم -كانت- راسخة حول وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية.
لهذا كله يُمثِّل هذا المؤتمر (الإعلام الجديد واللغة العربية) خطوة موفّقة في الاتجاه الصحيح، يشير إلى اعتراف أهل اللغة بضرورة البحث عن حلولٍ حقيقية، يأتي منها الدخول –بل التورط- في مشروعات علمية تتناول عوالم افتراضية شاسعة تُشكّل مساحات لا نهائية الأفق للأجيال الشابة، للاتصال والمشاركة والإبداع والإسهام في صياغة المستقبل. هذا يعني أن سدنة العربية وحرّاسها اختاروا أن يخرجوا من قلاعهم الحصينة، ونطاق حدودهم التقليدية، لطرْق قضايا تهمُّ المجتمع، وتتناول ظواهر من حياة أبنائه اليومية بالدرس والتحليل.
حرص المنظمون على طباعة الأوراق العلمية المشارِكة، لتكون جاهزة قبل بدء المؤتمر (وقد شكلت أربعة أجزاء سمينة الكتلة والقيمة)، وذلك سعياً لإثراء النقاش حولها، في محاولة للوصول لتوصيات أكثر ملامسة للواقع. وقد تناولت الأوراق جوانب وقضايا شتى: مقترحات لبرمجيات ومنصات ذكية لتطوير السليقة اللغوية، دراسات عن الهوية اللغوية والمستويات والظواهر اللغوية في منصات التواصل الاجتماعي، وتحليلات للتجارب الرقمية العربية والرواية التفاعلية والأدب في تويتر والفيس بوك، ونقاشات حول أهمية السيميائية في دراسة الأدب الإلكتروني الذي يتقاطع مع بقية الفنون البصرية والسمعية، وغير ذلك من الموضوعات والقضايا المتصلة.
أعتقد المؤتمر نجح في تحقيق أهم أهدافه؛ أعني لفت نظر المتخصصين في اللغة العربية وآدابها لهذه العوالم الافتراضية المؤثرة، وأهمية التعامل معها بجدية ومنهجية. فشكراً للجامعة الإسلامية ورئيسها أ. د. عبدالله العتيبي، وشكراً لكلية اللغة العربية وعميدها ذي الهمة أ. د. ماهر الرحيلي، ولفريق عمله الشاب، على حسن التنظيم والاحتفاء.. لقد كان حدثاً يليق بلغة القرآن في مدينة المصطفى.. سيد الحكمة والبيان.