• في العام 1981م خرجت علينا بعض الصحف السعودية بـ(مانشيتات) ضخمة عن التحاق طفل أفغاني يبلغ من العمر 9 سنوات فقط بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، مُؤكِّدة على لسانه أنه مُلمّ بصناعة (القنبلة النووية)، وأنها أسهل عليه من صناعة كوب من الشاي!. ولأن المثل الشعبي يقول: (كيف عرفت أنها كذبة، قال مِن كُبرها) فلم يمضِ وقت طويل حتى تعثَّر ذلك الطفل المسكين، وأخفق، ولم نعد نسمع عنه شيئاً!.
• تذكَّرت ذلك الطفل الذي تم اغتيال طفولته وعبقريته المبكرة بسكين (التسريع غير العادل)، وأنا أقرأ قبل أيام خبراً مماثلاً عن طفل بلجيكي في نفس العمر تقريباً اسمه (لوران سيمونز)، يُقال إنه بصدد التخرُّج من جامعة (ايندهوفن) للتكنولوجيا في ديسمبر المقبل، حاملاً شهادة البكالوريوس في الهندسة الكهربائية!. ورغم تحفظي (كتربوي سابق) على إلمام طفل في التاسعة بعوالم الهندسة المتشابكة، واتساع مداركه للربط بين مفاهيمها.. إلا أنني سأتجاوز هذه النقطة على اعتبار أنها قد تكون نوعا من (البروباغندا) للجامعة ولبعض منسوبيها، إلى سؤال أهم: ماذا عن الفجوات المعرفية والمهارية والاجتماعية والعمرية لدى هؤلاء الأطفال، والتي يتم تخطِّيها والقفز عليها بسبب برامج التسريع التي يتعرَّضون لها؟!.
• لاشك أن هناك الكثير من صغار السن الذين حصلوا على شهادات جامعية في سنين مبكرة، منهم (كارل وايت) الذي حصل على الدكتوراة في القانون وعمره 16 عاماً، وكذلك (نوربيرت ويتر) الذي حصل على الدكتوراة في المنطق الرياضي وعمره 18 عاما، لكن من المهم جداً، تفهُّم أن هؤلاء رغم أنهم لم يكونوا أطفالاً في المراحل الابتدائية، إلا أن كثيراً منهم عانى من تعثُّرات نفسية واجتماعية.. مما يدفعنا لعدم الانسياق خلف الخرافات المتعلقة بالتسريع الدراسي.. فهناك حقائق وأدوات لابد من تفهّمها حتى لا يكون التسريع وبالاً على الموهبة، مثلما حدث للبريطانية (ليزا وودمان) 1988م، التي تعرَّضت لانتكاسة نفسية قوية، وغيرها من الأطفال المثيرين للشفقة من ضحايا برامج التسريع التي تستفيد منها بعض الجهات.
• الموهوبون ثروة، ومن المهم جداً تقديم الخدمات والبرامج التربوية الإثرائية والتسريعية لهم، لكن ذلك يجب أن يتسم بالتعقُّل والتوازن والحرفية، بعيداً عن المصالح الشخصية والبرامج الإعلامية لبعض الجهات التعليمية، فالزج بالأطفال مع طلاب أكبر منهم، قد يحرمهم من فرص ممارسة اللعب والحياة الاجتماعية الطبيعية، كما يحرمهم من التمرُّس على الأدوار القيادية التي كانت احتمالات تواجدها وسط أقرانهم ممَّن يُماثلونهم في العمر الزمني أكبر بكثير.. كما أن بعض برامج التسريع التعليمي من شأنها مضاعفة الأعباء وتكثيفها على الطفل، مما يجعله عُرضة للضغوط،، كما قد يؤدي بعضها إلى انخفاض مستوى تحصيله بسبب شدة المنافسة الأكاديمية، بالإضافة إلى أن التسريع قد يفقد الطلاب الموهوبين والمتفوقين بعض المبادئ والمهارات والمعارف الضرورية، ويؤدي -كما قلنا- إلى فجواتٍ معرفية واجتماعية ونفسية كثيرة.
• باختصار.. الطالب الموهوب شمعة شديدة الحساسية، يجب التعامل معها بعنايةٍ وتأنٍ وأمانة.. فإبقائه في الصفوف العادية قد يُسبِّب له الملل والضجر والانطفاء.. وتسريعه بشكل غير منضبط قد يُسبِّب له الاحتراق المُبكِّر.