Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. عادل خميس الزهراني

ضاع «مفتاح».. فيا لوعة الأبواب!!

A A
وقف على رصيف الميناء، والانتظار يأكل قلبه، لم يَضعِ الحقيبة، لعله لم يملك واحدة حينها.. ملكَ قلباً يسع المستقبل بكل أسراره.. كان البحر خلفه، وجدة تلفحه برائحتها، تلك الرائحة التي لا يخطئها قلب عاشق..

حصل هذا قبل ثمانين عاماً أو يزيد، لم ينظر لليبيا التي تركها في الصحراء خلفه، خشية أن يقع أو يتعثر.. فترك البحر خلفه، ووقف على رصيف الميناء، منتظراً خاله الذي يعيش في جدة.. كانوا يدعونه «مفتاح».. هذا كان اسمه، لكنه قرر أن يصبح «مفتاحاً» للثقافة والنور.

بعد فترة وجد الفتى «مفتاح» نفسه معلقاً من سقالة بناء، كان البناء أول أعماله.. لكن بناءً من نوع آخر آخذ قلبه ولبه حين كبر قليلاً.. «بناءُ الكلمات»، فقرر أن يتعلق بسقالتها؛ عبر عالم الصحافة، وعوالم الثقافة..

آمن عبدالفتاح أبومدين –رحمه الله- بالكلمة ودور الثقافة في بناء الوطن، فأخلص لإيمانه قدر ما استطاع؛ خلال مسيرته الصحفية في الرائد والأضواء والبلاد وغيرها من الصحف التي عمل وكتب فيها لعقود من الزمن.. أشعر أنني كنت معه ذلك الصباح الجداوي الغريب، حين دخل عليه ممثل شركة أرامكو باحثاً عن تسوية للخلاف بين الشركة والصحيفة الصغيرة التي كانت أحوج ما يكون لنقود أرامكو وتأثيرها... انتهى الاجتماع، وعينا شريكه باعشن تُحاول أن تخترق رأس صديقه أبي مدين، لتعرف ما يخطط له: هل سيقبل الوساطة؟ هل سيقبل العرض؟ هل سينقذ الصحيفة؟ اخترقت الإجابة قلب العدد التالي: (أرامكو ترشو الأضواء).. وكانت حكاية ..!!

ثم انتقل لإدارة الثقافة؛ والمفتاح هو المفتاح.. والدور هو الدور.. قدم أبو مدين لثقافة المملكة خلال عقود عمل بها في نادي جدة الأدبي ما لم تستطع أن تقدمه مؤسسات بكاملها؛ إيماناً بدوره، ورسالته في الحياة، وإيماناً منه بما يمكن أن تقدمه الثقافة لتنمية الوطن، وإنسان الوطن. فكان أدبي جدة علامة فارقة في ثقافة المملكة، وكان أبومدين نجمة مضيئة في سماء الثقافة.

«عرفه المكان، وتعرفه الكتب، وتعرفه القلوب»، كما قال عبدالله الغذامي في رثاء صديقه الذي عرفه لأكثر من أربعين عاماً، كان فيها «زينة أيامنا وعطر مجالسنا».

يحكي محبو أبي مدين الكثير عن خلقه وتسامحه، وشجاعته في قول الحق، وعن تفانيه في العمل، حتى عده سعيد السريحي «الأنموذج الأمثل لمن يؤمن بالثقافة ويتفاني في خدمتها، والرهان عليها»، ويحكي علي الشدوي كيف أن أبا مدين احتضنه، وعطف عليه، وطبع له كتابه الأول.

أنا كذلك طالني هذا العطف «الثقافي» من أبي مدين؛ رفعتُ هاتفي في الصحيفة ذات ظهيرة، لأجد صوته يشع كالشمس من الجهة الأخرى مهنئاً، ومشجعاً، وناصحاً.. وحين طرقت بابه أول مرة، لأستشيره في مشاركة بملتقى النص، وضعني -وورقتي الصغيرة- بعد أيام على المنصة مع حماي صمود وحسن الهويمل والمناصرة.. كانت أول مشاركة رسمية لي في مؤتمر، أدمنتُ زيارته بعدها.. أدخلُ عليه، وهو مدفون بين كتبه، فينصحني بهذا الكتاب أو ذاك، ويسألني عن هذا الحدث أو ذاك، ويهرّبُ لي مع كأس الشاي بالنعناع هذه الدراسة أو تلك.. أهداني كتبه كلها.. لكنه أهداني حكايته أكثرَ من مرة..

أعني تلك التي يحكي فيها عن صبي صغير وقف على رصيف ميناء جدة ذات صباح.. صبيٍ يدعى «مفتاح».. قرر أن يصبح «مفتاحاً» من مفاتيح جدة.. وفانوساً من فوانيس الوطن.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store