احذروا القدر..
أو لا تفعلوا..
لا تعلمون –ولن تعلموا- ما
الذي يُخبئه لكم..
قبل أربعة أعوام كتبت مقالاً هنا في المدينة، عن ظرفٍ صغير طرق بابي في صقيع بريطانيا: وكم كانت مفاجأة جميلة حينما «وجدت داخل المظروف نسخة من مجموعة قصصية للقاصة المبدعة عائشة الحسن. المجموعة حملتْ عنواناً يُشبه الصقيع، كما يُشبه أشياء أخرى، لا تنتمي إلا للبرد والحزن.. (القاع)...». هكذا مضى المقال يتلمَّس طريقه في (قاع) عائشة، ويبحث عن المعنى في حكاياتها التي تصرخ ألماً، وحيرة. كان عنوان مقالي: (العائشة في القاع: اللون رائحة للوجع).
عرفتُ عائشة الحسن أول الأمر في قاعات الدراسة؛ كنّا سوياً مع آخرين وأخريات في برنامج الماجستير نحاول فك رموز الحياة وترتيب عبثيّتها بالنبش في قضايا اللغة والأدب. كانت عائشة تسبقنا دوماً لكل فكرة جديدة، وتملأ كل لحظة بأسئلة لا يسعنا الهروب منها.. كانت صباحاتنا مكتظة بالنهم والطموح والأمل.
ثم عرفت عائشة أكثر في الوسط الثقافي، حين لاحظتُ أثرها في منتديات الثقافة والمواقع الإلكترونية النشطة، وبصْمتَـها في الأنشطة الأدبية في الجمعيات والمؤسسات المختلفة. كانت عائشة تؤمن بالثقافة؛ بقيمها الأصيلة، وبدورها في خدمة الثقافة، لذلك كانت تقدم خدمات مجانية للكاتبات والكتاب، تبدأ بالدعم المعنوي والتشجيع، ولا تنتهي بالنصائح النقدية الصارمة.
نعم.. كان لعائشة قلمٌ نقدي حيادي وجسور يقول ما يراه حقاً دون خوف أو توجس، لأنها كانت دوماً تسعى للأفضل.. مهووسة به، ولطالما كانت مقالاتي وآرائي وجبة دسمة لهجومها واختلافها ونقدها الحاد.. قصائدي أيضاً كانت عرضة لنظرتها الفاحصة، ما جعلني أتفاجأ حين طلبت يوماً أن تنشر نصوصي في موقع أدب.. ولا تزال نصوصي تنعم بدفء الموسوعة، وزيارات الأصدقاء والصديقات.
حين نشرتُ المقال، كانت عائشة قد اختارت أن تتسلل إلى الظل، وتغادر المشهد الثقافي الذي احتفى بها، وبقصصها، وبجهودها النقدية والثقافية. عتبتُ عليها كثيراً، ولُمتُها على هذا الموقف (السلبي) في رأيي، وهي ظاهرة ثقافية معروفة لدينا، كم من المبدعات اللاتي اخترن الابتعاد وركنّ للهامش تحت ضغوط المجتمع والزواج والأبناء، بعد أن كنّ في متن المشهد. بالنسبة لي لم أقتنع أبداً أن هذه الظروف تعارض الحضور الثقافي للمثقفة السعودية، ولا يجب أن يكون هناك تعارض؛ أعتقد أن على المثقفة دوراً في ترسيخ هذه الفكرة للأجيال القادمة من مبدعات ومثقفات الوطن، أعني أن دور المثقفة يجب أن لا يصطدم بواقعها الاجتماعي، وألا ترضخ للضغوط التي تجبرها على الغياب، والتنازل عن دورها وحضورها.
قلت هذا كله لعائشة حينها، لأنها اختارت -أو اضطرت- أن تغيب عن المشهد بعد أن تزوجت وأنجبت... لكن جواب عائشة كان:
- من أجل مَلكْ وعبدالله.. وأبيهما اخترت أن أصبح الزوجة والأم فقط!!
احذروا القدر..
أو لا تفعلوا..
لا تعلمون – ولن تعلموا- ما الذي يخبئه لكم..
قبل ثلاثة أشهر تعرضت عائشة الحسن مع عائلتها لحادث سير مريع.. فقدت فيه زوجَها، وأختَها الصغرى، وبنتَها، وابنَها..
بالنسبة لعائشة؛ كُتب لها أن تعيش ثلاثة أشهر من الألم والحسرة..
وقبل أيام.. رحلتْ..
لحقت بعائلتها، التي ضحَّت لأجلها بحلمها في الثقافة.. وفِي الكتابة.
رحمك الله يا عائشة الحسن، وأسكنك جنات السماء، بعيداً عن ظلمة القاع.. ووحشته!!.