على غير المعتاد في إهداءات الكتب التي يخطُّها المؤلفون بأقلامهم، آثر الشاعر الكبير مصطفى عبد المجيد سليم أن يكتب صفحة كاملة، جاءت كمقال أو كنص أدبي رائع، يخال من يقرؤه أنه جزء أساسي أو مقدمة لديوانه الأخير «وجوه تعشقها الذاكرة». والحق أنه حين وصلني الإهداء، فتح لي نوافذ الأمام والوراء! كان شاعرنا الرقيق الذي شارك في إعداد الملحق الأدبي في «عكاظ» تحت إشراف الكاتب السعودي الراحل عبد الله خياط في بداية السبعينيات من القرن الماضي، يتحدث شعراً عن بعض الشخصيات التي تناولتها في مقالات الأربعاء والتي أنشرها تباعاً في «المدينة» الغراء.
وبعيد أن يتحدث الشاعر الكبير عن «طفولتي الآسرة التي يتداخل فيها الحسي بالمعنوي، وتلك السعادة المسربلة بدهشة مباغتة، والتي كانت تنتابه وهو يحاول إقناعي بأن «المغرب» الذي كنت أنتظره كل يوم في شهر رمضان هو نفسه «الشيخ عبد الغني»، يمضي يقول: «سعيداً أهدي إليك كتابي منتظراً حصاد قراءتك الواعية دائماً.. أيها، الأديب الصحفي، يا من أسعدتني بقراءة أحاديث أربعائك المنداة بماء الشعر»!
الله! ما أجمل أن تقرأ لشاعر، يعتبرك أحد عناصر عالمه الجميل وإبداعه الأجمل! تأتيك قصائده فترويك عشقاً لماضيك، وتأخذك الى جولة رائعة بين صناديق الذاكرة فتجعلك تسائل نفسك: «لماذا ينام الماضي بل يستيقظ دوماً في حديقتي؟!».
وأعود الى قصة الإهداء الجميل، وقواسم الجمال والشخصيات المشتركة، الواردة في ديوان «وجوه تعشقها الذاكرة»، حيث يقول شاعرنا مصطفى سليم: الى وجوه من قريتي.. وجه لاحقتني محبته، ووجه لاحقته بفضولي، ووجه مجذوم حملت هَمَّ أوبته للقرية.. ووجه.. ووجه.. ووجه.. كل وجه أعارني تلقائية حكيه، فلا ملل يعروني، ولكنه سحر اللغة المجدولة من زفير الأسى..! على كل الوجوه تحط بسمتي، وتزهى في خلايا أفانين تلك المحبة الصادقة!
ينخطف القلب مع الشاعر حين يصف «الأجير القانع» في أيامه الأخيرة.. كنت ملقي الرأس في حجر الحبيبة.. يحتويك مشيبها المخذول.. تجمعه سدى.. وتشد حول الرأس طرحتها.. تجفف دمعها المخفي.. تحرص أن يطل حنان عينيها عليك بلا دموع.. الى أن يقول: من فرجة بالباب نرقبها تهمهم.. لم تغير جلسة جمعتكما صبحاً.. تؤاكلها الرغيف وقطعة الجبن القديم، وشايها المر الحميم.. وتصب كوبك.. مترعاً تبقيه.. هل صارت تراك بعين لهفتها البصيرة.. حيث لا أحد يراك!
أعرف جيداً ذلك الأجير القانع.. أعرفه شكلاً واسماً وأتذكر وجهه تماماً، ربما كان ذلك هو السر في انخطاف قلبي، وأنا أقرأ القصيدة الجميلة، وأطل من فرجة الباب التي يتحدث عنها الشاعر! وفور أن أفيق يأخذني سريعاً الى «أحزان طلبة» الذي كان يدب في ثياب الصبية الرعيان.. بخطوة رعناء مزهوة.. عصاك نزعتها شوكاء من سدرة.. تهش بها على غنم.. تضيق بخطوك الطائش.. فحين تعود كل أصيل.. عصاك يجرها الإعياء.. تخف الى فضاء السطح.. تدس بثوبك الفضفاض كيزاناً من الأُذرة..لكي تبتاع سيجارة.. تدخنها بعيداً - في الحظيرة - عن عيون العمة الغضبى! فيفضحك السعال، يشوبه الضحك المكتم، حين تعطس قربك العنزة!
يستمر الشاعر في وصف «طلبة» ابن العمة «منصورة» .. يبكيني معه وهو يصف حاله عندما فقد ابنه الشاب الوحيد قائلاً: ذوى العود الرطيب، أماله الهرم.. تشبث باعتدال الظهر أحناه! وحط على الجفون سواد، فمنذ توحدا بالثكل، قبلا.. ما احتمى.. بصدر الزوجة الحاني، كما أمسى يلوذ الآن! يقتسمان صمت العين.. يحتضنان هم القلب..!
يصحبني الشاعر من جديد لهواجس العمة «عز» الفلوكلورية، حين كانت تقص حكايات قبل النوم وحيث استجلاء الوحشة ترقد في العينين.. لتصحو في طيات الحلم! كنا لا نأكل ثمر النبقة حذر الموت.. فهذا الثمر مليء بدم الموتى.. هذا الثمر تساقط من كف ترصدنا.. من يلتقط الثمرة لا ينجُ من كف الأم الغول، القاطنة بأبعد غصن!.
ثم ينتشلني من دوامة الحزن الشفيف، الى عالم آخر حيث صوت «المداح» .. على الجنبين في ترب مثار، ونحن الشاردين نجر خطوا، تطوعه لحون باقتدار، نرى المداح يطرق كل باب، فليس تخيب وقفته بدار! فإن يهد إليه الخبز صرفا، يخبئه بأحناء الإزار، وإن يهد إليه طبيخ قدر، يعب حساءه قرب الجدار!
لقد كان من الواضح أن الوجوه التي لاحقت محبتها الشاعر، فضلاً عن حبه لها، أكثر من تلك التي لاحقها هو بفضوله، فهاهو يحكي عن آخر الممسكين بجذع عمومتنا.. إنه وجه «الغريب العائد» محمد أحمد قنديل ذلك الفلاح الذي لوحته شمس القرية جل سني الصبا، وجذبه بريق القاهرة، ولأنه كان محض بريق، فقد لفظها قبل أن تلفظه وعاد لقريته.. أخي يا محمد..هل صار ما بيننا محض حلم؟! وهل طرقة الباب، في أي وقت أشاء انتهى وقتها.. لأنك كنت المصافح بالقلب قبل اليدين، وكان اتساع ذراعيك، مفتتح الجلسة الرحبة الطيعة!
هكذا وجدتني بين صفحات الديوان، تلفحني نفس الوجوه أو جلها، وأنا موجوع بأنيني على فراق «وجه مطر العزيز»، ووجه العم الأعز في « أبي لا ينام» ووجه زوجة العم في «عجوزان أمي وأنا» ووجه سوسن ابنة العم التي ماتت طفلة.. كنت أنهي القراءة وأنا أردد مع الشاعر الكبير: يا قريتي.. سيظل ليلك مقمراً أو مكفهر الطلعة .. وجهاً.. أقول الشعر فيه اذا تناءت غربتي!.