«مفتاحُ الذهنِ المُغلَق هو أن يرى أصفادَه». نقلنا سابقاً العبارة المذكورة للباحث علي علي، الأستاذ الدكتور في فلسفة التشريع الإسلامي، لكن السؤال يبقى، وحديثنا دائماً عن مُصطلح (السؤال): كيف يمكن لذلك العقل أن يرى أصفاده ابتداءً؟ وقبل هذا، ماهي الموانع التي تُقفل العقل وتُقيِّدهُ بالأصفاد، وتَحول دون إمكانية فتحه؟ بهذا، يكون السؤال في هذا المقام: ما الذي يُعيق بشكلٍ واضح كل ما له علاقةٌ بالسؤال والشكّ والتساؤل في الثقافة الإسلامية التقليدية الراهنة؟.
ما من شيءٍ يبدو أقرب للإجابة على السؤال أكثر من مشاعر (الذُّعر) و(الخوف) و(الرُّعب) التي يبدو واضحاً أنها تُصيب الغالبية العظمى من المسلمين عندما يتعلق الأمر بمحاولة طرح مفاهيم تتعلق بـ(السؤال) و(التساؤل) و(الشك)، فضلاً عن الحوار في ضرورتها وأولويتها إذا أُريدَ لأي عملية إصلاحٍ إسلامي أن تبدأ. أما عندما يتجاوز الأمر ذلك إلى طرح الشكوك والأسئلة بشكلٍ واضحٍ وصريحٍ وشامل، فإن المشاعر المذكورة أعلاه لا تصل، فقط، إلى ذروةٍ شاهقة، وإنما ينتقل الموضوع منها إلى الاتهام والتكفير والتخوين، وما إليها من أحكامَ قاطعة ونهائية.
المذهل، منطقياً، في الموضوع يتمثل في افتقاد القدرة على التفكير بالمعاني التي يطرحها القرآن، والمتعلقة بالموضوع، من لحظة الخلقِ الأولى. فقصة (الحوار) بين الخالق وإبليس مشهورة. والتأمل العميق في عفوية وجمالية الطريقة التي تعامل فيها الخالقُ مع جدَلِ إبليس مُعبرٌ للغاية! {يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ}؟ يسأل الخالق العظيم، وفي آية أخرى تكون صيغة السؤال: {يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؟ وفي آيةٍ ثالثة: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}؟
هل تُمكن المعاندة في استقرائنا لدرجة اللطف واللياقة الكامنة في تعدد صيغة السؤال وتنوع مداخله بشكلٍ ربما يُقنع المسؤول؟ تستغرب، في مثل هذه المواضع، من (عقلية الإنكار) التي تتلبس العقل المسلم التقليدي بشكلٍ عام، ويصلُ الاستغرابُ غايتهُ حين يكون الحديث عمّن يُفترض فيهم أن يكونوا علماء يتقنون معاني العربية والدلالات والإشارات الكامنة في مثل هذا التعدد، وفي المسألة بأسرها.
ثمة مسائل حساسة أخرى يتم القفز عليها باختزالٍ وتبسيطٍ لا يليقان بالمقام الجدي لهذا الموضوع. مَن الذي يمكن له أن يُجبر الخالقَ أصلاً على أن يسمح بفعلِ إبليس الذي اقتضى السؤال؟ وهو الذي يقول {كُن فيكون}. ولماذا لم تشأ إرادة الخالق أن تُغفل إيراد السؤال، والحوار بأسره، أصلاً في القرآن؟ ماهي الحكمة من وراء ذلك؟ وهو الذي لم يُنزلهَ ويتكفَّلَ بحفظه وتلاوته إلى يوم الدين فقط، بل جعل تلاوة مثل هذا الحوار جزءاً من التعبُّد بالقرآن أثناء الصلاة وخارجها!.
ثم نأتي إلى إجابات إبليس على الأسئلة المذكورة. إجاباتٌ لم يسمح الخالق فقط بخروجها من فم إبليس أصلاً، وهو القادر على إخراسه، وإنما، أيضاً وأيضاً، أعطى إبليسَ الفرصة للنُطق بها، ثم جعلها جزءاً لايتجزأ من سطور القرآن وآياته، وحفظ لها الخلود إلى يوم القيامة، ومنحَ الإنسان الأجر على التعبُّد بتلاوتها؟!
{قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِى مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} يُجيب إبليس، وبنفس الصيغة في آيتين مختلفتين.
لم يغضب الخالقُ بشكلٍ يمكن أن نسميه (غضباً إلهياً) سيكون متميزاً بالتأكيد، ولاعلاقة له بأي درجةٍ من الغضب البشري. لم يمحق إبليس لَحظَتها ويمحُه من الوجود ويُخبرنا بأن هذا هو مصير من يجادل الله و(يحاوره) بتلك الطريقة، ليكون هذا درساً قاطعاً ونهائياً يُقدَّمُ للإنسان من لحظة البدء في عملية خلقه. لم، ولم، ولم.. وألف (لَم)، كان يمكن لها أن تكونَ (درساً إلهياً) فيما يتعلق بالسؤال والحوار في مثل هذه المواضيع. وإن كان ممكناً، للمفارقة، تَخَيُّلُ ما يمكن لمسلمٍ يفكر في الموضوع بالطريقة التقليدية السائلة أن يخترعهُ من أنواع بشعة وغير إنسانية في تفاصيلها عن العقاب الواجب في مثل هذه الحال!.
بشيءٍ من الموضوعية الحقيقية والتجرد البعيد عن العواطف، هذا هو تماماً الفرقُ بين طبيعة تعامل الخالق مع (السؤال) و(الشكّ) الذي انبثق منه ذلك السؤال، وبين طبيعة تعامل المسلمين مع الموضوع.
إلهٌ يعرف عظَمتهُ وقُوتهُ وحِكمتهُ. إلهٌ لا يخاف ولا يُذعر ولا يرتعب، لا من (سؤال) ولا من تهجمٍ ولا من شكٍ ولا من تساؤلٍ أياً كان. إلهٍ جليل جميلٌ كبيرٍ مُتعالٍ يدرك أن مثل تلك الممارسات لا يمكن أن تمس جلاله وجماله وسُموَّهُ وتَعَاليهِ وقَدْرَه.
هذا، تحديداً، هو الإلهُ الذي (يحاول) أن يُصغِّرهُ ويُقزِّمَ مقامَهُ الفكر المسلم التقليدي، غالباً دون أن يعلم بما يقترفهُ عقلهُ (المُصفَّد) من ممارسةٍ تتجاوز الخطأ إلى الخطيئة، وتكاد تقع في نوعٍ من التألي على الله، والقيام بدورٍ من أدواره، بدعوى الخوف عليه سبحانه، وبدعوى حماية مقامه ومقام الدين الذي أنزله ليكون تحريراً للإنسان من كل عبوديةٍ للبشر أو لأفهامهم وتفسيراتهم وأحكامهم الفقهية.
أيُّ فارقٍ هذا الذي يتجاوز كل فرقٍ بين الأرض والسماء؟.
في مراجعة (العلوم الشرعية) (١٣): الذعرُ من (التساؤل) و(السؤال) و(الشك)
تاريخ النشر: 28 يناير 2020 00:30 KSA
A A