في بعض المؤسسات الخدمية في عالمنا العربي يصمت الموظفون ويتهامسون في الخفاء في صورةٍ ثنائية حين يجتمع منهم من يثقون ببعضهم، وفي المحصلة الجميع يعلم بالأمر! حتى إذا رحل المدير إلى منشأة أخرى (انظر مصطلح الركل إلى أعلى في كتاب حياة في الإدارة – د. غازي القصيبي) أو أقيل (غير مأسوف عليه) ظهر من تحت الأرض موظفون لا حصر لهم يدعون أنهم سبق ونصحوا المدير السابق ولم يستمع لنصحهم! والحق أن كثيراً منهم لم يكذبوا، ولكن قد أسكتتهم أو بالأحرى «أخرستهم» سياسة المدير الإرهابية التي ربطت الترقيات بالصمت أو التأييد المطلق للمدير وسياساته البائسة.
وعادة ما ينقسم الموظفون تجاه ما قد سلف إلى عدة أقسام:
- الناصحون: قد يجابهون بعقوبات غير معلنة في صورة تجميد إداري وما إلى ذلك، أو مثلاً أن يقع الموظف في خطأ إداري غير مقصود أو مدبر فيكون ذلك الموظف عبرة الى من لا يعتبر!
- المطبلون: وهذه البيئة توفر مناخاً خصباً لظهورهم، وسرعان ما يتحول الفرد منهم إلى نبات متسلق انتهازي «ماكيافيلي».. في هذه البيئات الخانقة وغير الشفافة تنتشر المكائد الإدارية والوشايات والقيل والقال، ويتسابق الكثير من هذه العينة لخدمة المدير -الذي تتضخم ذاته يومًا بعد يوم- ولو بخدمات رخيصة خارج إطار العمل لا يقبلها أي امرئ حر لديه ذرة كرامة، وهذه العينة التي تفرح بإيميل خاص من المدير وترتعش فرائصها عند تلقي اتصال أو دعوة منه هي التي تصنع المدير الديكتاتوري.
- الصامتون: قاموا بعمل حسابات في داخلهم ومع أسرهم وأحصوا سنوات الخدمة، قرروا أن يلتزموا الصمت لأن «المخرج عايز كدا»!، فانكفأ كل منهم على مشروعه الشخصي يتسلم المرتب آخر الشهر ويقوم بتربية أبنائه والنفقة على أسرته وتحول من موظف نشيط مبدع إلى موظف أرشيف يسلم ويستلم ولو شاهد ما شاهد، فالضمائر تموت في البطون الجائعة!
- الراحلون: بداية التسرب الوظيفي الصامت، يبدأ الموظفون الأكفاء بالتفكير أولاً في ترك الكيان الذي أمضوا فيه عقدًا أو عقودًا من أعمارهم، وهؤلاء لم تخطر ببالهم يوماً كمجرد فكرة أن يتركوا هذا الكيان الذي يحملون له الذكريات الطيبة والجميلة، لكنهم وأمام ما يلمسونه من جحود وقلة تقدير وما يسمعونه من زملاء في كيانات أخرى ومع ما يشعرون به من «اغتراب» فإنهم يتخذون الخطوة التالية بالبدء في البحث عن موضع قدم في مكان أفضل كاستثمار في صحتهم وراحة بالهم، فالموظف النظيف لا يستطيع العيش في هواء فاسد، وفي عصور الإرهاب الوظيفي يتوارى الموظفون الشرفاء ويتقدم الموظفون التافهون الأقزام، ومما يورث العجب في كثير من الكيانات الإدارية في عالمنا العربي أن المديرين «المقولبين» بنظريات إدارية جامدة عاف عليها الزمان ولفظتها الأمم المتقدمة ينظرون إلى الموظف كعبء على المنشأة! في حين أن أحد الأثرياء اليابانيين يقول وهو يحكي قصة نجاحه بأن السر هو بإسعاد الموظفين! ويقول أيضًا موصياً المدراء الجدد: «انس المساهمين وركز على إسعاد الموظفين»!
«إذا أردت بيضًا.. فاهتم بالدجاجة أولاً!»
إن «أشباه الإداريين» ينظرون بغباء غير مسبوق إلى الأرقام و»الإكسل شييتس» وkpi’s ولا ينظرون إلى التفاصيل الصغيرة (في مظهرها) والتي تعكس آلام الموظف الشريف المطحون والذي بات مجرد رقم في ترسها الضخم، يصمون آذانهم عن نقد الموظفين البناء وآراء الجمهور أيضاً، في حين أن شركة «جوجل» قامت بوضع جائزة ضخمة لمن يستطيع إيجاد ثغرة في نظامها! وهذه الشركة أيضاً عرفت بتدليل الموظفين وتوفير كل وسائل الراحة لهم في أروقتها ولم تعد تفرض على موظفيها دواماً جامدًا مثل ما تفعل بعض المنشآت في العالم الثالث بوضع كاميرات وأجهزة بصمات وما إلى ذلك من وسائل والتي وإن دلت فإنما تدل على كراهية الموظفين لعملهم!
والعجيب أن هؤلاء المديرين الحمقى يستغربون من الخسائر فيقومون بتسريح الموظفين ظنًا منهم أن هذا التصرف الأرعن سيحل الإشكال.. وعندما يتسرب الأكفاء يبقى المتسلقون.
المؤسسات العظيمة ذات التاريخ الكبير والأوطان هي من يدفع الثمن في صمت ولله الأمر من قبل ومن بعد.
الإرهاب الإداري يغيب ثقافة النقد البناء داخل أرواق المنشأة
تاريخ النشر: 31 يناير 2020 00:11 KSA
A A