تبنَّى برنامج «الإعداد لوظائف المستقبل» الذي أقامه معهد الإدارة العامة، بالشراكة مع سفارة الولايات المتحدة الأميركية في الرياض، خلال الأسبوع الماضي الدعوة إلى تطوير قدرات طلاب الجامعات السعودية، وربطها بالاحتياجات الحقيقية لسوق العمل، وتعزيز المهارات العصرية المطلوبة التي تمكنهم من الحصول على وظائف نوعية متميزة، مثل تعزيز مهارات التفكير الناقد، والتناغم مع التطورات التقنية، وإتقان اللغة الإنجليزية، باعتبارها بوابة التعرف على المستجدات التي تطرأ بصورة شبه يومية على كل جوانب حياتنا، لاسيما المهارات الرقمية. ومما يعزز فرصة نجاح البرنامج في تحقيق الأهداف التي أقيم من أجلها هو الخبرة الكبيرة والمعرفة الواسعة لمعهد الإدارة بما يحتاج إليه أبناؤنا الشباب، من واقع ارتباطه الوثيق بالقوى البشرية، إضافة إلى مشاركة المتخصصين والخبراء في جلسات النقاش، واستضافة عدد من الشخصيات البارزة التي سردت تجاربها وتقدمت بمقترحاتها لأجل الوصول إلى الغايات المنشودة.
أعاد البرنامج إلى الواجهة من جديد سجالاً ظل يدور منذ سنين طويلة دون التوصل إلى نتيجة محددة حول علاقة التعليم بالتوظيف، حيث يدعو كثيرون إلى ربط مخرجات العملية التعليمية بالاحتياجات الفعلية لسوق العمل، بحيث لا يكون هناك تباين بين ما يدرسه طلاب الجامعات من مناهج نظرية وبين الواقع الحقيقي على الأرض، فيما يدعو آخرون إلى عدم ربط التعليم بالتوظيف، باعتبار العلم قيمة سامية وغاية في حد ذاتها. ومع احترام من يتبنون الرأي الأخير، والتسليم بأن طلب العلم في الأصل هو امتثال لقول الله تعالى «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، وقوله عليه أفضل الصلاة والسلام «من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له طريقاً الى الجنة»، إلا أن الواقع الذي نعيشه في عالمنا المعاصر، وتزايد نسبة البطالة وسط خريجي الجامعات، مع ما يسببه ذلك من مشكلات اجتماعية وأمنية كثيرة، تستوجب إعادة التفكير في القناعات، ومراجعة وترتيب الأولويات، بما يحقق في النهاية المصلحة العامة.
ولا بد بدءاً من التسليم بأن التعليم هو أساس تطور المجتمعات وتنميتها، ومن دون مخرجات تعليمية عالية الجودة يستحيل الوصول إلى تنمية مجتمعية، ولتحقيق هذا الهدف لا بد أن يكون هناك توافق وتناسق بين التعليم وقيمته السامية والمتطلبات التي ينبغي توفرها في طالب الوظيفة والباحث عن العمل، دون أن يطغى أحدهما على الآخر. وللأسف فإن المشهد الفعلي على أرض الواقع يقول إن هناك حالة انفصام بين ما يحمله كثير من خريجي الجامعات من علوم ومعارف وما يتمتعون به من مهارات، وبين ما يحتاجه السوق، ومعظم الخريجين يفتقرون إلى الأدوات التي تتيح لهم القدرة على المنافسة في سوق العمل، لذلك يظلون في دائرة البحث المتواصل عن الوظائف ويقابلهم كثير من أصحاب العمل بالعزوف .
ونحن نستشرف عصر رؤية المملكة 2030 التي دعت في كثير من بنودها إلى تعزيز مهارات الشباب، وزيادة قدراتهم، وتقليل نسبة البطالة في صفوفهم، وتوطينهم مكان العمالة الوافدة لتحقيق الأمن المجتمعي، فإن المطلوب هو تبني مثل هذه المبادرات، والسعي إلى ابتكار وسائل جديدة، والعمل على تحقيق الهدف الأسمى المتمثل في إتاحة فرصة العمل أمام الجميع، عبر وضع مناهج حديثة، تراعي متطلبات العصر واحتياجاته، وتساير ما استجد من ابتكارات واختراعات، على أن لا تقتصر تلك المناهج على مرحلة التعليم الجامعي، بل ينبغي أن تبدأ منذ سنين الدراسة الأولى، بحيث ترفع من وعي التلميذ بقيمة العمل، وتزيل التشوهات الفكرية المرتبطة بالأعمال المهنية والحرفية، وأن تتدرج تلك الجرعات بحسب تطور سن الطالب ودرجة وعيه.
الحكمة تقتضي التعامل مع الواقع بما يستلزمه، وأن تكون البداية عبر إحصاءات معينة تكشف الاحتياجات الفعلية لسوق العمل، والوظائف الأشد طلباً، والفرص الأكثر جاذبية، على أن تتبع ذلك برامج علمية متخصصة تتيح لأبنائنا القدرة على منافسة العمالة الوافدة، وتوطين الوظائف، وتوفير عشرات المليارات التي تحوّل سنوياً خارج المملكة، حتى يمكن إعادة تدويرها في أسواقنا بما يؤدي إلى زيادة القدرة الشرائية، وإيجاد المزيد من فرص التوظيف.