والجثة طبعًا، تعبيرٌ أستلفه من ناقدنا المميز محمد العباس، في تغريدته التي قال فيها: «الكاتب الذي ما زال يلكم جثة الصحوة بمقالات ثأرية إنشائية، يشبه المقاتل الذي لم يخبره أحد بانتهاء الحرب وما زال يوجه فوهة بندقيته الصدئة نحو أي طائرة يظنها ستقصف متراسه».. وهي تغريدة تأتي متسقة مع فكرة العباس وتحليله- في مقالاته ومشاركاته- لموقف كثير من المثقفين في تعاملهم مع «الصحوة»، كما أنها تمثل مع السجال القائم حول الصحوة خطابًا من خطابات المراجعة، لظاهرة لا نختلف على أهميتها وتأثيرها في تاريخ المجتمع السعودي المعاصر.
ولعلي اليوم أضيف تهميشًا بسيطًا يتناول زاوية النظر أكثر من كونه تحليلًا للحركة، أو تتبعًا لحالة تلقيها بين الباكين منها أو عليها.. هذا يعني أني مع قراءة الظاهرة، وإعادة قراءتها، أكثر من مرة، لأن ذلك قد يفضي إلى تصور أوسع للظاهرة المركزية في تاريخنا المحلي.. (علمًا أني أرى الصحوة لم تمت بعد، فهي- مثل باقي الحركات الأيديولودجية المؤثرة- لا تموت بهذه السهولة كما لا يخفى عليكم).
لكن.. هل يعني ذلك أن تقف قراءتنا عند حد «إلقاء اللوم» على الصحوة ولكْم جثتها؟ أعتقد أن طرحًا لا بأس به يشتكي من هذه العلة ويمكن تصنيفه ضمن قائمة «اللطم البطولي»، الذي لا يفيد المجتمع، ولا يحقق حتى المكاسب بعيدة المدى لأصحابه، من وجهة نظري.
التعامل الجديُّ مع أي ظاهرة مهما كان الموقف الشخصي -والظرفي- منها، يقتضي الحيادية، وقراءتها بالنظر في سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي، وتحليل مقوماتها الداخلية، وعناصر القوى المؤثرة في تكوين خطابها.. لا يصح للمثقف أن ينظر لحركة تجاوزت زمن سطوتها بمنظور التشفي والبحث فيها عن «كبش فداء»، لأن هذا الموقف -ببساطة- لا يقدم أي جديد أو مفيد للمجتمع.. هذا الدور- في رأيي- لا يكشف إلا عن هشاشة المبادئ «المعرفية» التي ينطلق منها هذا المثقف، مهما كانت توجهاته.
أنا أرى أن للصحوة إيجابياتها التي لا يمكن نكرانها، لكني أرى أن سلبياتها أكبر وأشد تأثيرًا، لسبب مركزي هو أن خطابها الرئيس كان يسير في اتجاه مضاد لسيرورة الحياة بمفهومها الحديث، ما أوقعها (أعني الصحوة) في شرك التناقضات والصراعات التي لا يمكن حلها، أو مسايرتها.
ومع ذلك يفترض أن يكون نقد «الصحوة»، نقدًا للمرحلة كاملة، ومحاولة التعلم من أخطائها: نقد المرحلة يقتضي النظر لظروفها، ولأطرافها كافة: (خطاب الصحوة، الخطاب المضاد، حالة التلقي الاجتماعي، الموقف السياسي من المرحلة....الخ).
لو نظرنا إلى بعض المبادئ والممارسات الشهيرة، التي كان للصحوة دور بارز في تكريسها رغم سلبيتها؛ سنتذكر مثلًا التضييق على الحريات وفرض الرأي الواحد مع رفض التعدد وإقصاء المختلف -بل محاولة إلغائه-.. وهناك أيضًا قصر النظر وضيق الأفق الذي أنتج محاولة مستميتة لتحديد مصادر الثقافة وتجهيل المجتمع، بالإضافة إلى الاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر، والتطرف للآراء والتشنج مع المخالفين، وتسويق الهجوم الشخصي باسم الدين، ومحاولة استغلال الدين للحصول على السلطة المطلقة.
نظرة أخرى على هذه المبادئ والممارسات توضّح لنا أنها تصادم قيمًا وحقوقًا إنسانية لا يصح لأي مجتمع حديث أن يتنازل عنها؛ (منها مثلًا مصادرة الحرية وحق الاختلاف، طمس نزعة التسامح الإنسانية، ومصادرة العدالة، وتجاوز «العقد الاجتماعي»، والحجر على حق التفكير الحر.... الخ).
يفترض بنا حين ننتقد مرحلة الصحوة الآن، أن نكتشف كيف اخترقت الصحوة المجتمع، واستطاعت السيطرة عليه، وتشويه هذه القيم، وتجويف مفاهيمها الحقيقية لأغراض سلطوية.. ويفترض بالنتيجة أن تسهم في تعزيز مناعة مجتمعنا لضمان عدم الوقوع في شرك هذه الحملات والحركات المؤدلجة مرة أخرى.. خصوصًا حين يمسُّ الأمرُ قيمنا الإنسانية العليا.
يفترض بنقدنا للصحوة أن يقودنا لأن نتعلم من أخطائنا في التعامل معها، لكي لا نقع في الأخطاء ذاتها مع غيرها.
أفترض أن السؤال الذي يطرح نفسه الآن:
هل تعلمنا من أخطائنا؟
هل فعلنا ذلك حقًا؟