«وأولئك الذين يلهثون وراء الحاجات الاستهلاكية يفقدون القدرة على رؤية المعنى الحقيقي والفعال للأشياء نفسها، ولذلك لا يقنع ذلك النوع بما يملكون رغم ضخامته».
نوبو آكي نوتوهارا
* سألني ابني ذو الأحد عشر عامًا ثلاثة أسئلة جوابًا عن واجب مدرسي سيقدم عن بُعد:
- ما رأيك بما يحصل من جراء كورونا؟
- متى تظن أن هذا الأمر سينتهي؟
- إذا كنت ستخضع للحجر فأي البلاد تفضل؟
فقلت: البشرية قادرة على الصمود والتحدي، والحذر واجب، مررنا في السابق بتحديات مماثلة، لكن الظروف كانت مختلفة فلم يكن الهاتف الذكي معروفاً بعد.
- أتوقع أن تلعب الصدفة دورًا في العثور على اللقاح، ربما ينتهي الأمر تدريجياً في غضون أربعة أشهر (رأي شخصي لا علمي) لكن على بعض الشعوب تغيير أنماطها الغذائية، وعلى العالم أن يكون صارماً تجاه ذلك.
- أحتجز هنا في بلدي.
فقال انه يقصد خارج الوطن؛ فقلت: تلك القرية في جبال الألب والتي تحظر السيارات.
أولم يكتب شكسبير رائعته «الملك لير» وقت الوباء؟
* تساءلت مجرد تساؤل عابر -بنظرة تأملية غير تشاؤمية- وأنا أمشي ليلة البارحة؛ ماذا لو كانت هذه هي النهاية؟ ونظرت خلفي: الدار، السيارات، المال.. لا شيء يذهب مع الراحلين.. ثمة لافتة في كل المصارف: «إدارة الثروات»، ربما كان من الواجب إعادة تعريف هذه الجملة.. وجعلت أتذكر أفلام الخيال العلمي والأفلام التي تنبأت بنهايات مماثلة، أشهر تلك اللقطات لسفن كبيرة أعدت لهروب صفوة بني البشر والتي إن نجحت في البقاء فستؤسس لحياة جديدة.. ترى؛ ماهو آخر شيء أريد أن أقوله؟ كم أنا ممتن للحياة الكريمة الهادئة التي عشتها، لقد جبت أصقاع الأرض وأمضيت بصحبة والدي وأسرتي حياةً كريمة، ثم رزقت بعد رحيلهما بأسرة جديدة، زوجة وأبناء طيبين.
سأقول لتراب الوطن شكرًا، لقد عشت محترمًا، لم ينقصني شيء رغم كل الضجيج من حولنا ؛ ١٩٧٩، ١٩٩٠، ٢٠٠١،٢٠١١
سأقول لأحبتي جميل أن نرحل سويًا كنت سأفتقدكم كثيرًا.
ها نحن قاب قوسين من الحقيقة التي لم يعد أحد من العالم الآخر ليخبرنا عنها.
سأقول لخالقي: الحمد لك على كل شيء، كنت على عهدك ووعدك ما استطعت.. أعوذ بك من شر ما صنعت.. سامحني وارأف بحالي فقد كنت مصدقاً.
سأقول لغير المصدقين: اخترت أن أؤمن وأخطئ على أن لا أؤمن.
وتذكرت صديقًا لوالدي تجادل مع رفيقه في البعثة فقال له: هناك احتمالان متساويان، ربما سينتهي كل شيء فقط.. لكن هناك دار آخرة وحساب.. فماذا ستفعل؟!
* ربما كانت هذه ضريبة ما سمي Globalization، عالم واحد، قرية واحدة، إعلام واحد، وباء واحد.
تقول الرواية أن حضارة تطورت صناعياً وتقنياً بحيث أصبح كل شيء سريعًا من المواصلات السريعة مرورًا بالوجبات السريعة والوصفات السريعة إلى النجاح السريع! وانتشرت كتب من عينة: كيف تكسب أكبر الثروات بأقل مجهود!
وقامت الهواتف الذكية بإنتاج عقول ليست بذكية، واشتهر الأوغاد وتساقط القدوات وانهارت القيم، وقامت التقنيات بتقريب البعيد وإبعاد القريب واستغنى الناس عن العالم الواقعي بعالم افتراضي، وسمعنا عن زوج آلي يغني مستقبلًا عن الزوج العادي بهمومه ومتطلباته يقال بأنه سيظهر في يوم المرأة القادم!
ثم غزا تلك الحضارة وباء مجهول، اضطرهم الى تعطيل مناحي الحياة، وخشوا أن تكون تلك نهاية قصتهم الملهمة.. شيئاً فشيئًا ضاقت سراديبها بهم وقرر نفر منهم الخروج رغم التحذيرات ولسان حالهم:
حبُّ السلامةِ يثني هم صاحبهِ
عن المعالي ويغري المرء بالكسلِ
إن العُلا حدثتني وهي صادقةٌ
فيما تُحدثُ أن العز في النقلِ
لو أن في شرف المأوى بلوغَ منىً
لم تبرح الشمسُ يوماً دارة الحملِ
خرجوا مرة أخرى، لكن نظرتهم تجاه الحياة تغيرت، وكأنّ ذلك التوقف الاضطراري كان فرصة لالتقاط الأنفاس من هذه العجلة المتسارعة، ربما أعادهم ذلك الى الحضارات الأولى، فجلست الأسر سويًا أجساداً بأرواحٍ حاضرة، وعادت القيم الإنسانية وتعاضد الجيران بعد الخلاف ولأول مرة اتحد الجميع أمام عدو واحد، وخرجت الأسرة من النطاق الصغير الى الأسرة الممتدة.
تقول الحكمة القديمة ان رجلاً على حصان مسرع مر بسرعة رهيبة بجانب رجل آخر على قدميه، فصاح الأخير: الى أين؟ فقال الراكب: لا عِلم لي.. اسأل الحصان!
في القصة الرمزية يعبر الحصان عن مخاوفنا وقلقنا المتواصل، وحتى حينه فشلت الغالبية في الإجابة عن سؤال بسيط: إلى أين يأخذنا هذا الحصان الجامح؟