لا أعلم كيف ولماذا، لكنّ خبرًا صادف عيني أثناء تجوالي الافتراضي «غير المحظور»، يقول عنوانه: (لا وفيات في مدينة الإنسان «ميروندولا»، ولا إصابات أيضًا). ابتسمتُ حينها.. وفكرتُ في التورية اللطيفة خلف الخبر.
ميروندولا هذه مدينة تاريخية صغيرة شمال إيطاليا، عرفها التاريخ في القرن الخامس عشر بقلعتها الجميلة التي كان يسكنها نبلاء المنطقة من آل «بيكو ميروندولا». غير أن أهم أبناء هذه العائلة هو جيوفاني، وهو الذي وضع المدينة في متن التاريخ الإنساني.. كان جيوفاني بيكو ميروندولا شابًا لاهوتيًا مولعًا بالفكر والفلسفة، نشر في حياته القصيرة -في القرن الخامس عشر- مجلدات مهمة في الفكر الإنساني، منها كتاب بعنوان (900 أطروحة) في الأخلاق والروحانية والفلسفة واللاهوت، كما اشتُهرت ترجماته لأعمال إفلاطون حتى صُنّف ضمن «الإفلاطونيين الجدد»، ودخل في جدل طويل ومتشعب مع رجال الدين، الذين رفضوا -كالعادة- أطروحاته، وانتقدوها بشدة.. بابا الفاتيكان ذهب إلى أبعد من النقاش، حين أمر -بعد نشر ميروندولا لأحد كتبه- بإقامة محكمة تفتيش متخصصة في أعماله، وكانت النتيجة -بطبيعة الحال- رفضَ معظم الأعمال، واتهام صاحبها بالهرطقة، والأمر بسجنه.. ليس غريبًا إذن أن تكون نهاية هذا الفيلسوف المسالم، أن يموت مسمومًا في الواحد والثلاثين من عمره.
كتاب (900 أطروحة) هو أول كتاب تقرر الكنيسة منعَه عالميًا، ولكن هذا ليس السبب وراء شهرة الفيلسوف الشاب، بل القطعةُ التي نشرها بعد صدور الكتاب، ليشرح فيها سياقَ كتابه الفكري تحت عنوان (مقالة في كرامة الإنسان).. وفقًا لكثير من الفلاسفة ومؤرخي الفلسفة، تعد هذه المقالة البيانَ الأول في خطاب حركة «الإنسانوية»، التي تحتفي بالإنسان وتركز عليه وعلى التوجهات التي تعلي من منجزاته، متأثرة بعقلانية عصر النهضة وقيمها العلمانية، وتوصف -تاريخيًا- بأنها حجر الزاوية لعصر التنوير.. يمكن القول: إن «الإنسانوية» أشهر الحركات الفكرية عبر التاريخ، ليس فقط بمناصري مبادئها وبمنجزاتها، ولكن بمعارضيها وبالجدل التاريخي الطويل الذي قام حولها، وهي ببساطة تمثل خلاصة الفكر الغربي الحديث وقيمه الليبرالية، وفي مقدمتها، قيمة «الحرية».
«الحرية» هي سبب شهرة المقالة التي فتحت صفحة جديدة في فهم طبيعة الإنسان ومكانه في الكون.. ببساطة، كانت الفكرة السائدة عن الإنسان قبل حركة الإنسانوية بأنه يحتل -في سلّم الكون- مكانة متوسطة بين الآلهة والحيوانات، لكن ميروندولا قدم تفسيرًا جديدًا لهذه المكانة، بطريقة صاغت مفهوم «الحرية» في العصر الحديث، حين جعل الإنسان كائنًا فوق -أو خارج- الطبيعة، له القدرة على تطويع ما فيها معتمدًا على إرادته الحرة.. خلق الله كل الكائنات -إلا الإنسان- بصفتين جوهريتين: أولاها: وهبه مجموعة من السمات والمواهب الخاصة التي تمكنه من البقاء حيًا (مثل المخالب والأجنحة للطيور، والفرو وسرعة العدو للأرانب...)، وثانيها: حدد له مكانًا في الكون يعيش فيه (أرض، أو بحر، أو سماء... وهكذا)..
أما الإنسان فلم تكن له هاتان الصفتان، لأن الله عوضه عنهما بسمة: «الحرية».. من هنا يرى ميروندولا -وبقية الإنسانويين- أن الإنسان هو أكثر المخلوقات إثارة للإعجاب، حيث -بحريته وإرادته- يمكن أن يصنع مصيره الخاص، ويشكل تاريخه.. «لأن الإنسان لا شيء مما تحدده الطبيعة»، وهو «يستطيع أن يصبح كل شيء»، كما يقول الفيلسوف لوك فيري.
هذه الفكرة جعلت المقالة أطروحة من الأطروحات المؤسسة للفكر الإنساني الحديث، كما أدخلت ميروندولا ومدينته التاريخ، هذه المدينة التي لم تسجل حتى كتابة هذا المقال أي إصابة بفيروس كورونا، فـ»لا وفيات في مدينة الإنسان ميروندولا، ولا إصابات أيضًا».