· وقعت هذه القصة في العراق أثناء الخمسينيات الميلادية، حيث افتقد أستاذ جامعي أحد طلاب الدراسات العليا النابغين، كان الطالب فقيراً، فخرج ذات يوم وهو جائع ولا يحمل في جبيه غير فلس ونصف، كانت الوجبة من الخبز والفجل تكلف فلسين، فاشترى رغيفاً بفلس؛ وذهب الى صاحب محل الخضروات وطلب منه باقة فجل، ولمّا كانت الباقة بفلس قال للبائع: معي نصف فلس لاغير؛ وسوف أفيدك إن أردت في مسألة علمية أو فقهية بنصف فلس آخر.. فردَّ عليه بائع الفجل بتهكم: لو كان علمك ذا قيمة لاشترى لك باقة فجل، اذهب وبلّل علمك بالماﺀ واشربه!. كانت هذه الكلمات أقسى من ضرب الحسام على نفس صاحبنا، فخرج وهو يقسم ألا يعود لطلب العلم مرة أخرى.
· افتقد الأستاذ تلميذه النجيب، بحث عنه وسأله، فقال: لقد كرهت العلم لأني لم أنتفع منه، سأبحث عن عمل يؤكلني خبزاً.. لم يجبه الأستاذ؛ لكنه أخرج خاتماً ذهبياً من اصبعه وطلب منه أن يبيعه ويأتيه بثمنه!، سار التلميذ إلى سوق (الصاغة) وهناك باع الخاتم بألف دينار ثم جاء بالثمن الى أستاذه الذي سأله: أين بعت الخاتم؟!، في محلات الصاغة أجاب التلميذ.. ردَّ الأستاذ: ولماذا ذهبت إلى محلات الصاغة تحديداً؟!، فأجاب: هناك يثمِّنون الخواتم والمعادن الثمينة!، قال الأستاذ متعجباً: فلماذا إذاً قبلتَ أن يثمِّنك ويثمِّن علمك بائعُ فجل؟!، لا يثمِّن الأشياء يابُني سوى من يعرف قيمتها، وأنا أثمِّنك أنك من أعظم طلابي، فارجع إلى درسك وعلمك.
· كثيراً ما نقع في مثل هذه الخطأ عندما نسمع تثميناً خاطئاً فيؤثر فينا بشدة.. يقول الرافعي: «مقامك حيثُ أقمتَ نفسك، لا حيث أقامك الناس، فالناس لا تعدل ولا تزن»، ويقول أجدادنا: «اللي ما يعرف الصقر يشويه»، بمعنى أن من لا يقدِّر قيمة الأشياء قد يخطئ في التعامل معها.. أنت أعلم الناس بنفسك، فلا تجعل جهل الناس بك يغلب علمك بنفسك.. زِن نفسك بميزان الحق والثوابت، وأنصفْ نفسك إن لم ينصفك الناس، وأعطِ نفسك قيمتها، دون غرور ولا استنقاص.
· لا تجعل تقدير وتثمين الآخرين يؤثر على أفعالك وسلوكياتك.. بل زِن نفسك وحّكم عقلك وتَحكم بتصرفاتك، فمن المهم أن تعرف وزنك عند الله أولاً، ثم أمام نفسك وأهلك ومجتمعك، وأن تضع نفسك في المكان المناسب لها.. لا تنتظر هذا من الآخرين، فالناس يعاملونك كما تعامل نفسك، فإن اعتبرت نفسك أقل من الآخرين فإن الآخرين سيتعاملون معك على أنك أقل منهم فعلاً. لا تقلل من قيمتك أبداً ولا تنتقصها بل عامِلْ نفسك باحترام بغضِّ النظر عن فقرك وغناك أو ذكائك وعلمك.
· عندما تسقط قطرة ماء في بحيرة فإنها تضيع وتكون بلا هوية، لكنها حين تسقط فوق ورقة شجرة فإنها تلمع كاللؤلؤة، فاختر المكان الذي تلمع فيه، وانظر أين تتواجد ومَن تصاحب، ومَنْ تتابع، وماذا تقرأ، وماذا تشاهد، وسَتَعرف حينها من أنتَ، وما قيمتك، ولا تتردد في أن تترك المكان الذي لا تشعر فيه بقيمتك، لأنك عندئذ ستحفظ لنفسك قدرها، وستضع الناس في أحجامهم الطبيعية.