يشاهد القوم في عزلتهم مسلسلاً جديداً عن عزلة من نوع غريب ومختلف، أعني العزلة التي يصورها (Unorthodox)، وهو مسلسل قصير يركز على قصة فتاة هربت من مجتمع الحسيدية اليهودي المتشدد، وكسرت قيوده لتعيش حياتها، وتحاول تحقيق أحلامها بعيداً عن ظلام طائفتها وطقوسها الدينية التي لا تنتمي لعصور النور التي يعيشها الإنسان.. يصور المسلسل سلسلة من عجائب هذا المجتمع التي لا يمكن تصديقها، لكنّ أكثر هذه العجائب -في رأيي- أن مجتمع القصة «الحقيقي» يعيش في بروكلين بالولايات المتحدة الأمريكية، بلاد الحرية.
مسلسل (Unorthodox) مستوحى -بشيء من التحريف الدرامي- من كتاب الكاتبة (الأمريكـ/ألمانية) ديبرا فيلدمان (هروبي المخزي من جذوري الحسيدية The Scandalous Rejection of My Hasidic Roots). الذي تسرد فيه قصة حياتها، حيث ولدت وترعرعت في مجتمع ويليامزبيرق اليهودي المتطرف، الذي حرمها من أبجديات الحياة الحديثة، وأجبرها -بطريقته الخاصة- على زواج مدبر من أحد أبناء الطائفة، إلى أن قررت الهروب من جحيم سجنها إلى نعيم العالم الحر، الذي لم يكن يبعد عنها إلا شارعين ليس إلا.
في العام 2010، أي قبل عامين من ظهور كتابها، نشرت ديبرا فيلدمان مقالة مهمة في صحيفة القارديان البريطانية، بعنوان (ذات مرة في العمر) تحكي تفاصيل انعتاقها من مجتمعها الذي لا ينتمي لهذا العالم؛ «نشأتُ في منطقة الأبيض/الأسود من بروكلين، نيويورك، -تقول فيلمان- حيث يرتدي الرجال في عائلتي القبعات والمعاطف السوداء، والقمصان البيضاء، ويدرسون كتب الأبيض/والأسود أيضاً، فالألوان الزاهية -بالنسبة لهم- ليست إلا عمل الشيطان».. تروي فيلدمان أنها منذ الصغر كانت تحب الكتب الإنجليزية، لذلك كانت تذهب سراً للمكان المحرّم «المكتبة العامة»، وتستعير بعض الكتب سراً، حيث وجدت فيها عوالم مدهشة، وسماوات لم تحلم أن تحلّق فيها يوماً ما.. «ولأني أقرأ الكتب الإنجليزية، عرفت أني فتاة عاصية.. ففي مجتمع الأبيض/والأسود يكون العالم إما خيّراً أو سيئاً، يهودياً أو غير يهودي.. ليس هناك شيء بينهما... إن تحديتَ أحد قوانين هذا المجتمع فستكون مباشرة على قائمة الرب السوداء».. جَدُّ المؤلفة كان يحذرها دوماً من اللغة الإنجليزية، لأنها لغة نجسة في رأيه، كان يقول إن استخدام الإنجليزية بأي شكل من الأشكال يعني
أن تجعل الشيطان سيداً على قلبها.
«كان عمري سبعة عشر عامًا -تحكي فيلدمان- حينما رتب جدي زواجي من أحد التلموديين الشباب، ذوي الضفائر الجانبية الذهبية واللحية البازغة.. هكذا أصبحت أماً عزباء في مثل هذه السن المبكرة».. أحد أسباب هروب المؤلفة أنها لم ترد لصغيرها أن يعيش جحيمها، وجحيم أبيه.
بدأت فيلدمان تمردها بالممنوعات الصغيرة كما تقول: «وضع المناكير، والكحل، استخدام المترو، بعد ذلك أردت أن أرى العالم؛ ألبس الجنز، أقود سيارة، أتعلم كيف أعزف على البيانو.. كل هذه كانت أحلاماً مستحيلة لامرأة في ظروفي.. في الواقع، كان ذلك تأثير الكتب، لو لم أقرأ، لما تسللت هذه الرغبات إلي».
كان مجتمعها المنغلق في ظلامه يعتاش على الإشاعات، وقصص الفضائح لمحاولات تمرد سابقة، لكن عدداً لا بأس به من الأجيال الجديدة لم تعد تخشى هذه القصص، ولا محاولات رجال الدين لملاحقة الشباب والشابات وتخويفهم، والتضييق عليهم بكل الطرق الممكنة.. «لا يبدو لي أن الرب كان يمانع أن أكشف شعري، أو أقود السيارة، أو أدرس الفلسفة، لكن الحسيديين (أعضاء الطائفة) كانوا يمانعون بالطبع.. لقد تحديتُ القوانين، وذهبت أبعد من ذلك حين فضحتهم بالكتابة عنهم وعنها».
في أحد مشاهد المسلسل تفعل البطلة شيئاً صغيراً، فتصاب بالهلع، ثم تخرج من المطعم مذعورة، وتقف خارجه، بانتظار أن تضربها صاعقة من السماء... لم يحدث شيء -بطبيعة الحال- لكنهم هكذا أقنعوها عبر عقود من عمليات غسيل المخ، لها، ولكل أبناء وبنات طائفتها.
في العام 2014 هاجرت ديبرا فيلدمان إلى برلين، حيث تعيش مع ابنها، وتعمل كاتبة مستقلة.. نشرت عدداً من الأعمال الأدبية حتى الآن، منها قصة حياتها التي ظلت على قائمة الأكثر مبيعاً لفترة، وترجمت إلى الألمانية.. ورغم ذلك فقد أكدت في أكثر من مناسبة أنها لا تزال تصارع مشاعر الذنب، والحنين للجذور، في مواجهة محاولاتها لإقناع نفسها أنها تنتمي لهذا العالم الحر المضيء.