مصطلح «السياسة اللغوية» هو أحد المصطلحات الدارجة في الأوساط العلمية والثقافية هذه الأيام، لما يمثله من أهمية استراتيجية في بناء المشروعات التربوية والثقافية والاجتماعية.. وهو -حسب ما يذكر الدكتور بلال دربال، أستاذ اللسانيات المعاصرة- ينطوي تحت علم اللسانيات الاجتماعية التي تهتم ضمن ما تهتم «بالقوانين التي تحكم حركة اللغة عند تفاعلها مع البنى الاجتماعية».. وترد مصطلحاتٌ مثل (التخطيط اللغوي، الهندسة اللغوية، التنمية اللغوية، الأمن اللغوي...) لتشترك مع مصطلح السياسة اللغوية وتزاحمه أحيانًا.. ويعرّف لويس جان كالفي السياسة اللغوية بأنها «مجمل الخيارات الواعية المتخذة في مجال العلاقات بين اللغة والحياة الاجتماعية، وبالتحديد بين اللغة والحياة في الوطن».. يلاحظ دربال أن هذا التعريف يتضمن ضرورة اتخاذ قرارات واعية ومقصودة بعد إعداد مشاريع مدروسة بطريقة علمية من شأنها خروج سياسة لغوية قابلة للتطبيق.. كما تقتضي السياسة اللغوية وجود جماعة- أو جماعات- لغوية، بالإضافة إلى اللغات ذاتها، وإلى إرادة حقيقية لتنظيم العلاقة بين اللغة والحياة الاجتماعية، يضطلع بها مؤسسة ما، أو سلطة تنظم الحياة داخل الوطن، بما في ذلك الوضع اللغوي.. ويخلص دربال إلى أن آلية رسم السياسة اللغوية تمر عبر مراحل ثلاث هي وصف الوضعية اللغوية الاجتماعية المراد التدخل فيها أولًا، ثم تحديد أهداف هذه السياسة اللغوية، وانتهاء باعتماد استراتيجيات تنفيذ هذه السياسة.
فقيد اللغة العربية الملهم البروفيسور محمود فهمي حجازي أصدر- ضمن ما أصدر من إنتاج ثري- كتابًا صغيرًا بعنوان (اتجاهات السياسة اللغوية)، عن مركز الملك عبدالله لخدمة اللغة العربية، قبل خمس سنوات تقريبًا.. يقدم الكتاب باختصار مجموعة من التجارب العالمية لمشاريع السياسة اللغوية لكل لغة من اللغات التي تتحدثها هذه الدول..
يقول حجازي: «إن التنمية اللغوية لا تتحقق إلا بمعرفة منفذيها بأهمية اللغة وبوعيهم بها.. التنمية اللغوية هادفة إلى بناء مستقبل أفضل للجماعة اللغوية»، من هنا يرى أن للعربية حقًا على الدول الناطقة بها بأن يكون لها سياسة شاملة تسهم في أداء العرب لدورهم الحضاري، وتوطد مكانتهم حاضرًا ومستقبلًا.
يتناول الكتاب تجارب دول عريقة من أوربا وآسيا في رسم ودعم مشروعات السياسة اللغوية، مثل اللغة الفرنسية، والألمانية، والإنجليزية، بالإضافة إلى اللغة اليابانية ولغة الملايو وغيرها.. في كل جزء يعطي حجازي فكرة مقتضبة عن الإطار التاريخي والأهمية المعاصرة للغة، والأهداف التي تضعها السلطات لتحقيق السياسة اللغوية، والمؤسسات التي توكل لها مهمة تحقيق هذه الأهداف.. كما يعرج الكتاب على الاتجاهات اللغوية المعاصرة والبرامج المنفذة لدعم كل لغة من اللغات التي وضعت لها سياسات لغوية، من ذلك تأسيس الأكاديميات اللغوية داخل الدول وخارجها ودعمها ماديًا ولوجستيًا، وإنشاء المعاجم المعاصرة وجعلها متاحة للجمهور بشكل عصري ويسير، بالإضافة إلى وضع خطط وبرامج لدعم المؤسسات اللغوية خارج البلاد، وخصوصًا في مناطق النفوذ لتلك الدول.. يمكن أن نشير إلى مثال اللغة الفرنسية هنا، إذ يذكر حجازي أن هناك قرابة ألف قسم للغة الفرنسية في العالم في جامعات لا تعلم باللغة الفرنسية، وأن المدارس التي تعلم اللغة الفرنسية في خارج فرنسا مدعومة من الحكومة، التي تجند الشباب الفرنسي للعمل في هذا المؤسسات بطرق مختلفة، كما يشير حجازي إلى ضرورة العناية الفائقة باللغة الفرنسة في الإدارة والتعليم والإعلام والثقافة، ومبادرات توحيد المصطلحات وإتاحتها مشروحة من خلال معاجم المصطلحات.
في خاتمة الكتاب يشدد حجازي، رحمه الله، على «أهمية وجود سياسة لغوية عربية واضحة الملامح لقيام دولة حديثة تستوعب جوانب الحياة»، وتهتم بالمناخ الثقافي العام (أسماء الأماكن، والأشخاص، واللافتات، وتكوين رأي عام حقيقي وعملي تجاه اللغة الوطنية).. يقول حجازي: «الرؤية المستقبلية تتحدد من خلال ما يقدم من أفكار، واللغة ترتبط بهذه الرؤية مع بيان أن الوطنية والانتماء لا يتناقضان مع المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية».