Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

طقوس العزلة.. وجغرافيا المنزل..!!

A A
نحن لسنا مسجونين..!! نحن في عزلة ...

لا يصح أن نعدّ أنفسنا مسجونين.. بيوتُنا ليست سجونًا، الغرف ليست زنازين نؤثثها بالحسرة.. بيوتنا هي قصورنا، وحدائق أعمارنا الغناء.. نقضي فيها جُلّ أوقاتنا، نحفر فيها -مع أحبابنا- أجمل الذكريات وأشدها وجعًا..

يموت الإنسان حين يصبح بيته سجنًا..

في عزلتنا هذه أعدْنَا اكتشافَ منازلنا، هكذا يقول الخطاب في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي إجمالًا، وهذا جميل.. هايدقر يقول: «إن نسكن يعني أن نجد ملاذنا الآمن المريح».

لا أعلم كيف تغيّر المبدأ.. وكيف شوهت صورة المنزل، حتى أصبحنا غرباء عن بيوتنا..؟! تحوّل المجلس الرجالي إلى منفى مسكونٍ بالأشباح.. من كان خلف هذه البدعة المقيتة؟! ملائكة الرحمة لن تغفر له..

المقلّط لحقَ بصاحبه.. أصبح -غالبًا- قاعة طعامٍ للأشباح، إلا فيما ندر، حين يزدحم المنزل بالضيوف.. من الأوادم .. لا الأشباح.

بالنسبة لي ألغيتُ فكرة المقلّط تمامًا، لأني أرفضها.. صديق عربي من أجمل أصدقاء الصحافة، سمعني يومًا أذكر «المقلّط» فلم يفهم ما أعني.. شرحتُ له.. فضحك وتعجّبَ من التسمية.. من يومها وهو يحلم أن أستضيفه في المقلَط، حيث يقلط الضيوف.. اليوم بعد عشرين سنة.. لا يزال يحلم.. وسيظل كذلك.. لأني ألغيتُ الفكرة من حياتي.

المقلط قضي عليه.. تعمرُه مكتبتي.. وأنا في صراع مستمر مع سيدة المنزل.. سارة؛ تريدها مرتّبة.. كمجلسِ الرجال، لكن الكتبَ والأوراق تتمرد.. صراعٌ آخر لا يزال قائمًا على الصالة الكبرى، والصغرى، وأماكن أخرى..!!

البلكونة، ضحية أخرى، (لماذا لا نقول الشرفة.. ما أجمل هذه الكلمة! وما أعجب سلوك اللغة!!) ذكرَ الغذامي أنه أعاد اكتشافها، يعني البلكونة.. وعمّتِ البهجة.

أعرف ما يعنيه، بعد أن تحولتِ البلكونةُ إلى مجرد تفصيل شكلي خالٍ من المعنى. كنت أعتقد أن السببَ هو الجوُّ غير المناسب، لكني اكتشفت غير ذلك.. لعل السبب الحقيقي أن لدينا هوسًا مَرَضيًا بالخصوصية والانغلاق والتخفي.. أعتقد أن البلكونة هي إحدى نِعم العصر الحديث في البناء، أجلسُ فيها بالساعات، أقرأ، وأكتب، وأستمع للموسيقى، وأتأملُ في المارة من الجيران، بعضهم أعرفه فأسلمُ عليه ويرد بيديه، وبعضهم لا أعرفه، ولا يسلّم حتى بعينيه.

أحدهم قال لي مرة إنه يغبطني على مكان بلكونتي التي لا تطل على أحد، وبعد نقاش أقنعته أنه لا فرق بين مكانه ومكاني، الفرق في القيود التي نضعها على أنفسنا، تحت مسميات الخصوصية، والذوق الاجتماعي أحيانًا، صديقي لا يريد أن يضايق جيرانه بجلوسه في البلكونة، تعجبتُ من هذا؛ كيف يضايق جاريَ جلوسي في جزء من بيتي!! لا أعتقد ذلك.. هو مجرد وهمٍ في رأيي.. جاري الذي يرغب في خصوصيته، سيغلق باب بلكونته، وينتهي الأمر.. !! (هل ينتهي الأمر فعلًا.. الله أعلم).

المطبخ في العزلة لم يعد مملكة المرأة.. استعمره الرجال، ويا له من غزو غاشم.. بطولاتهم يشهد لها تويتر.. وتاريخهم لن يؤرخه غير المهزومات..!! كنا نسمع أن النساء تحب أن يشاركهن رجالهن بعضًا من لحظات المطبخ.. لكنهم لطالما تمنعوا.. اليوم يفعلون.. ويتباهون بذلك في كل نافذة.. أتخيل أن النساء يندبن حظهن.. ويفكرنَ -بحسرة- في محمود درويش وهو يقول:

في البيت أَجلس، لا حزينًا لا سعيدًا

لا أَنا، أَو لا أَحَدْ

صُحُفٌ مُبَعْثَرَةٌ.. ووردُ المزهريَّةِ لا يذكِّرني

بمن قطفته لي.. فاليوم عطلتنا عن الذكرى،

وعُطْلَةُ كُلِّ شيء... إنه يوم الأحدْ

يوم نرتِّبُ فيه مطبخنا وغُرْفَةَ نومنا،

كُلِّ على حِدَةٍ.. ونسمع نشرةَ الأخبار

هادئةً، فلا حَرْبٌ تُشَنُّ على بَلَدْ

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store