لم يكن الكاتب الأمريكي العظيم سكوت فيتزجيرالد بعيدًا عن معاناة جيل الضياع، لكن ذلك لم يمنعه من التعامل مع الحياة كما تأتي.. انتهى به المطاف بالزواج بكاتبة شابة، زيلدا، هشة كجناحي فراشة.. عاشا في ألباما رحلة عشقية مجنونة، بين شاب في معسكر طيران ألباما، وشابة من عائلة غنية، التقت بفارسها وكاتبها الذي سيمنحها الحب والراحة والاستمتاع بالحياة.. ونست أنها هي كاتبة أيضًا، في وقت ارتقى فيه سكوت بسرعة سدة الكاتب الأمريكي الأعظم.. فتحول إلى أيقونة جيل الضياع مثل كيرواك صاحب رواية على الطريق.. فقد نسف في كتاباته، كل الأوهام المحيطة به وبجيله حتى أصبح قوة طاغية على المشهد الثقافي والروائي الأمريكي.. فكان لكل نص يكتبه، صدى كبير وواسع، بالخصوص روايته غاتسبي العظيم، التي شكلت مرحلة مهمة في الحياة الأدبية الأمريكية.. بينما دخلت زيلدا مرحلة الاحتضار الحياتي والإبداعي.. اختارت فيتزجيرالد على الغنى وميراث العائلة، والدلال.. تبعته في تجربة مجنونة كان ثمرتها زواج متسرع، وابنة، سكوتي، في وقت مبكر، جعلت منها أمًا قبل الأوان.
في الظاهر كان ذلك يجسد النموذجية العائلية الأمريكية في ظل مجتمع على الرغم من تفتحه، يظل محافظًا، دينيًا واجتماعيًا.. فقدت زيلدا الأمل في حياة كما اشتهتها.. التجأت مرة أخرى إلى الكتابة الروائية لتفادي الانتحار.. على الرغم من الجفاف الذي كانت تشعر به إلا أنها ظلت متعلقة بالكتابة كقشة لمجابهة قسوة الحياة.. حاولت أن تقول فيها خيباتها وأحزانها، لدرجة أن فيتزجيرالد سكون عندما قرأ بعض فصولها شعر بأن زيلدا لم تفعل شيئًا سوى قص حياتهما في الرواية.. لكنها لم تكملها أبدا، إذ سرعان ما تركتها واختارت العزلة القاسية.. كانت لحظة الجحيم قد فتحت بواباتها.. بدأت تلمس سماء جهنم.. كل المنافذ أغلقت ولم يبق أمامها إلا منفذ واحد هو الانتحار.. راحت تجربه مرتين متتاليتين، وفشلت ربما لأن الرغبة في الحياة كانت ما تزال متقدة جزئيًا ولم تنطفئ فيها كليًا.. انتابتها حالات من العصاب تفاقمت معها بسرعة، ضد زوجها وابنتها، مما اضطر سكوت فيتزجيرالد إلى إدخالها إلى مصحة عقلية بقيت فيها حتى موتها بشكل تراجيدي.
هل لسكوت فيتزجيرالد مسؤولية ما في جنونها؟ أم أن السبب مرده إخفاقها في الكتابة؟ قد يكون جزء من الإجابة في شهرة زوجها وانحسار نجمها في حدود الرواية الأولى، ونسيان الجمهور لها.. يضاف إلى هذا تربيتها.. فقد كبرت في عائلة تحصل فيها على ما تشاء بسهولة، لكن الكتابة شيء آخر.. تجربة جيل الضياع الذي ظن أنه سيجد نفسه في الحرية الجنسية والكحول والمخدرات، لكنه اصطدم في النهاية بسلطان النظام القاسي الذي لا قوة تزحزحه؟ انفصالها عن عالمها الصغير في مدينة ألباما الذي تربت فيه كطفلة مدللة، حيث يعرفها الجميع ويتقرب الكثير من العشاق، من عطرها وجنونها ونعومتها، قبل أن تجد نفسها في نيويورك حيث لا سلطان إلا سلطان القوة والغطرسة والشهرة والمال؟ تضاف لذلك غطرسة سكوت فيتزجيرالد الأدبية والسلطوية الرمزية التي حولتها إلى مجرد غبار حيث ألحقت به، فلا أحد يتحدث عنها مستقلة، قبل ان تعيد لها الاعتبار، بعد وفاتها، الحركات النسوية الأمريكية التي اعتبرتها ضحية سلطة ذكورية ظالمة؟ الوحيدة التي ظلت تزورها هي سكوتي، ابنتها بينما انقطع عنها زوجها نهائيًا.. إلى أن جاء ذلك اليوم الأسود حينما رن التليفون في بيت سكوت فيتزجيرالد يخبره بأن المصحة التي كانت فيها زيلدا احترقت، وهناك ثماني ضحايا من بينهم زوجته.. استلمت حياتها لاحقًا، السينما والمسرح والأوبرا والشعر والرواية، وحولتها إلى أيقونة فنية للتدليل على الهشاشة في الإبداع.
سؤالي الساذج: كم زِيلدا عربية سرقها زوجها، القبيلة، والدها، أخوها، أو حتى صديقها الثمين المبدع، بمختلف الحجج البائسة، كالعائلة والدين والوجاهة ومنعها، من التجلي في الحياة والإبداع للتعبير عن طاقاتها العقلية الخلاقة، وعن أنوثتها المزهرة، قبل أن يحجزها بين أربعة جدران باردة مثل قبر بارد؟ هكذا تظل المرأة تحارب طاحونة موت غير معلن إلى حين السكتة الإبداعية، التي تتبعها في أغلب الأوقات سكتة قلبية تسحبها بصمت نحو قبر بارد، هو أقسى وأقصى درجات العزلة.