مشاهد مؤلمة راجت في وسائط التواصل الاجتماعي خلال الفترة الأخيرة، ظهرت فيها حالات من العنف الأسري تعرض لها أطفال، راح بعضهم ضحايا للتعنيف من ذويهم.. وتجاوبت الأجهزة المختصة مع تلك الحالات بما تقتضيه من سرعة في التحرك وبدأت إجراءاتها الرسمية.. ورغم أن تلك الحالات باتت أمام منصات القضاء إلا أن ما أثار التفاعل الشعبي الواسع معها أنها وقعت في شهر الصوم الذي هو موسم للرحمة والعطف، كما حدثت في خضم السعي الجاد من الدولة لتوفير الحماية للأطفال والقاصرين، وتوفير الدعم المطلوب لهم، ولا أدلّ على ذلك من الأمر الملكي الكريم الذي صدر خلال الأيام الماضية بإلغاء عقوبة الإعدام بحق القاصرين الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، والاكتفاء بإحالة المذنبين منهم إلى دور مخصصة للأحداث مدة لا تتجاوز عشر سنوات، يخضعون فيها للتقويم والتربية الصحيحة، وتوفر لهم فرص مواصلة التعليم لضمان مستقبلهم الدراسي.
ومع أننا كمجتمع سعودي تعارفنا على قيم التراحم والتعاطف، إلا أن ما يثير الدهشة هو أن مثل هذه الحالات تتكرر في كثير من الأحيان، مما يرفع العديد من الأسئلة حول مسبباتها، وهو ما يؤكد أن المشكلة ترتبط في الأساس بخطأ في المفاهيم وغياب للإدراك السليم.. ويؤكد كثير من المختصين أن هناك حاجة إلى زيادة الوعي لدى الكثيرين بحقوق الأطفال وكيفية التربية السليمة، والآثار السيئة التي يتركها اللجوء إلى العنف، وتبصيرهم بالمنهج النبوي الشريف في هذا الشأن، حيث كان عليه أفضل الصلاة والسلام من أشد الناس رفقًا في التعامل مع الجميع، والأطفال بصفة خاصة، وتحفل السيرة النبوية المطهرة بقصص مبهرة في هذا الجانب.
هذا الدور من وجهة نظري لا يتأتى إلا إذا شاركت في ذلك جميع مؤسسات المجتمع المدني، بما فيها المساجد والمؤسسات الدينية ووسائل الإعلام، وكافة الفاعلين ومشاهير التواصل الاجتماعي الذين باتوا مؤثرين على نطاق واسع، عطفًا على ما يملكونه من نسب مشاهدة عالية، إضافة إلى تكثيف الوعي لدى الطلاب والتلاميذ منذ سن مبكرة بحقوقهم وواجباتهم، لاسيما في ظل الخطوة الصائبة التي اتخذتها القيادة الرشيدة بتضمين مادة حقوق الإنسان ضمن المناهج التعليمية.
ومع التسليم بضرورة تفعيل القوانين وتشديد العقوبة بحق المتجاوزين وتوفير بيئة قانونية سليمة لحماية الأطفال والقاصرين، إلا أن ذلك لا يكفي وحده لوضع حلول لمشكلة العنف الأسري، لأن القضايا المرتبطة بالمفاهيم الخاطئة لا يمكن تصحيحها بالجانب القانوني فقط، فلا بد من التركيز على تصحيح تلك الأفكار المغلوطة، وتبيان الحقائق، وتأكيد موقف الشرع الكريم، ومن ثم يتكامل الجانب القانوني مع الجهد التوعوي لتحقيق الأهداف المنشودة.
هناك نقطة في غاية الأهمية ينبغي التنبه لها وهي ضرورة عدم إبداء أي نوع من التعاطف مع من يلجأون إلى استخدام العنف مع الأطفال، سواء كانوا معلمين أو آباء، فقد شاهدنا خلال الفترة الماضية بعض الأصوات التي حاولت إيجاد مبررات لمن مارسوا التعنيف البدني بحق التلاميذ، بدعوى حثهم على الاجتهاد، أو اختلاق أعذار لآباء تناسوا واجباتهم الأساسية وارتكبوا تجاوزات بحق أبنائهم، فالتربية لم تكن يومًا مبررًا للتعذيب، والتعليم لا يمكن أن يتم بالإكراه، إنما هو رسالة سامية يقوم بها الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، سبيلهم الوحيد في ذلك هو النصيحة والحث والتحفيز.
أبناؤنا أمانة في أعناقنا، ونحن مسؤولون عنها أمام الله يوم القيامة، ولإنجاز هذه المسؤولية لا يكفي فقط توفير الأكل والشرب والسكن، فالحيوانات لها تلك المزايا، بل إن واجبنا هو غرس المفاهيم الصحيحة في أذهانهم، ومساعدتهم كي ينشأوا تنشئة صحيحة، ومن ثم لا بأس من العقاب المناسب الذي يؤدي إلى التصحيح والتقويم، إذا كان ضروريًا، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال أن يكون بدنيًا قاسيًا، فالهدف منه ليس الانتقام، وإنما التنبيه والتوجيه، فتعذيب الصغار لا يغرس في نفوسهم إلا بذور الكراهية والحقد، ويكفي الإشارة إلى أن رجال التربية وقادة الأجهزة الأمنية يؤكدون أن غالبية الذين تورطوا في جرائم السرقة والمخدرات والقضايا الأخلاقية كانوا ضحايا في طفولتهم لاعتداءات بدنية قاسية وتعنيف أسري مؤلم تعرضوا له ممن لم يدركوا مهمتهم الأساسية واعتقدوا أن هؤلاء الأطفال جزء من أملاكهم بإمكانهم التصرف فيها كيفما شاءوا.