بَعد دِرَاسةٍ عَميقَة، وتَأمُّل طَويل فِي مَدرسةِ الحيَاة، وَجدتُ أنَّ «قِيمة اللَّحظَة» و»قوّة الآن»؛ تَكاد تَكون مَفقُودَة، فالنَّاس فِي الغَالِب يُوزِّعون جهُودهم بَين البُكَاء عَلَى الأَمس، أَو القَلق نَحو المُستَقبَل، مَع أَنَّ هُنَاك مَنطقة فِي الوَسط تُسمَّى بـ»اللَّحظَة»، أَو «الآن».. هَذه المَنطِقَة يَغفل عَنهَا الكَثيرون، ومِن الغَريب أَنْ نَبكِي عَلَى اللَّحظَة بَعد مرُور السنوَات..!
وقَد وَجدتُ أنَّ أَكثَر الذين يَتبَاكون عَلَى المَاضِي، ويَقُولُون: كُنَّا زَمَان كَذَا، وأَين هو الزَّمن الجَميل، هُم فِي ذَلِك الوَقت؛ لَم يَشعروا بـ»قوّة اللَّحظَة» آنذَاك، ولَكن الآن عِندَما انفَرطَت مِنهم، وتَولَّت وذَهبَت، صَاروا يَبكون عَليهَا..!
حَتَّى هَذا المَقَال الذي تَقرأه الآن، وأَنتَ بحَالةٍ نَفسيَّة عَادية، بَعد (10) سِنين، ستَتحسَّر وتَقول: آآآه، مَا أَجمَل هَذا الزَّمن، عِندَما كُنتُ أَقبض عَلَى الجَوَّال، وأَقرَأ مَقَالَات «العرفج»..!
لِمَاذَا لَا نَعيش اللَّحظَة؟.. هَذا هو السُّؤَال، وسأُحَاول اليَوم أَنْ أَطرَح بَعض الإجَابَات عَليهِ، وسأُكمِل البَعض الآخَر فِي مَقالاتٍ قَادِمَة بإذن الله..
(مِن الأَشيَاء التي لَا تَجعلُنَا نَعيش جَمَاليَّات اللَّحظَة، أنَّنا دَائِمًا نُفكِّر فِيمَا لَا نَملك، ونَتجَاهل مَا نَملك..!
نَحنُ نُريد هَذا.. ونُريد ذَاك.. وإذَا لَم نَحصُل عَليهمَا، فلَن نَتوقَّف عَن التَّفكير فِيهمَا.. ونَظل غَير رَاضين. الغَريب أَنَّنا إذَا حَصلنَا عَلَى مَا نُريد، فإنَّنا نُعَاود التَّفكير فِي حَاجَاتنا الأُخرَى، ونَظلُّ كَمَا قَال الشَّاعِر:
(نَــروحُ ونَغـــدُو لحَـاجَــاتِــنَا
وحَاجَات مَن عَاشَ لَا تَنقَضِي
تَمـــوتُ مَـع المَــرء حَـاجَاتـه
وتَبـقَى لَه حَاجَـــة مَا بَقِــــي)!
أَمَام هَذه الإشكَاليَّة، طَرحَ الدّكتور «ريتشارد كارلسون» طَريقَة جيِّدة، لكَى نَتوقَّف عَن هَذا الرَّكض خَلف مَا نُريد، ولكَي نَكون سُعدَاء أَيضًا، حَيثُ قَال: هُنَاك طَريقَة يُمكنهَا أَنْ تَجعلنَا سُعدَاء، هَذه الطَّريقَة هي تَحويل تَركيزنَا مِن التَّفكير فِيمَا نُريد، إلَى التَّركيز فِيمَا نَملُك بالفِعل..!
وبَدلاً مِن التَّفكير فِي تَغيير شَخصيَّة زَوجتك، حَاول أَنْ تُفكِّر فِي خصَالهَا الطيِّبَة.. وبَدلاً مِن الشَّكوَى مِن ضَعف رَاتبك، حَاول أَنْ تَكون قَانِعًا بوَظيفتك.. وبَدلاً مِن التَّفكير فِي عَدم قُدرَتِك؛ عَلى قَضَاء الإجَازة فِي جُزر هَاوَاي، انظُر إلَى المُتعَة التي تَجدهَا فِي قُربِك مِن بَيتِك..!
إنَّ بَاب الاحتمَالَات لَا يَنتَهي، وعِندَهَا تَجد أنَّك تَقتَرب مِن الوقُوع فِي فَخِ رَغبَاتك؛ فِي حيَاةٍ مُختَلِفَة، سَاعتها ارجَع، وحَاول البدء مِن جَديد)..!
حَسنًا.. مَاذَا بَقي؟!
بَقي القَول: إنَّني مُنذ فَترَةٍ طَويلَة؛ أَدركتُ أَنَّ الخشُوع يَعني استحضَار اللَّحظَة، والتَّركيز فِيهَا، ومِن ذَلك الوَقت، بَدأتُ أَجعل الخشُوع لَيس فِي الصَّلَاة فَقَط، بَل فِي سَائِر حيَاتِي، بحَيثُ أَعيش اللَّحظَة، وأَستَمتع بـ»قوّة الآن»، وأُدرك أنَّ الزَّمن الحَقيقي الذي نَعيش فِيهِ، هو هَذا الزَّمَن، ولقَد صَدق الشَّاعِر حِينَ قَال:
(مَا مَضَى فَات والمُؤمل غيب
ولَكَ السَّاعة التي أَنتَ فِيهَا)!!