أواصل الحديث عمّا جاء في مسلسل «أم هارون» من تزييف في الحقائق التاريخية لتحسين صورة اليهود، وإعطائهم حقا ليس لهم في فلسطين، من ذلك ما جاء في مشهد في الحلقة التاسعة، وفيه الحاخام داود جالس في المعبد وأمامه ستة من أطفال اليهود، يحكي لهم حكاية الخميرة التي حرمها اليهود على أنفسهم أسبوع كامل في السنة، فقال: «ليش نحن بني إسرائيل ما نأكل الخميرة في أي نوع من أنواع الأكل حتى الخبز سبعة أيام؟ القصة ابتدأت في مصر في أيام حكم فرعون الشرير، كانوا أهلنا أجدادنا الطيبين مستعبدين من فرعون وقوم فرعون كان يعذبهم يستعبدهم حتى الأطفال اللي في عمركم كان يقتلهم.. أهلنا الطيبين طلبوا من فرعون الرحيل من مصر، لكن فرعون الشرير أصرّ على تعذيبهم وإيذائهم تحمّلوا العذاب لكن «هاشيم» (هاشيم كلمة عبرية تعني الله) ما تخلى عن شعبه أبدًا ضرب فرعون ضربة الحشر ضربة وراء ضربة وراء ضربة حتى استسلم فرعون لرغبتهم، وسمح لهم بالرحيل، انتشر الخبر عند كل بني إسرائيل أنّ فرعون سمح لهم بالرحيل، أمهاتنا كانوا يخبزون الخبز، علشان يستعجلون وما ينتظرون حتى يتخمّر الخبز ما حطوا الخميرة في الخبز، وعلشان ما ينتفخ الخبز الانتفاخ يعني الغرور يعني الاستكبار» واستغرقت الحكاية حوالي ثلاث دقائق.
وهذه مغالطة تاريخية كبرى، وإيراد قصة الخميرة للإشارة إلى خروج اليهود من مصر إلى فلسطين التي يسمونها بأرض الميعاد.
وسأبيّن هذا في الآتي:
ما ذكره حاخام مسلسل أم هارون بشأن عدم وضع الخميرة في الخبز عند خروج اليهود من مصر «علشان ما ينتفخ الخبز... الانتفاخ يعني الغرور، يعني الاستكبار!» هذه الإضافة خلاف ما جاء في سفر الخروج، إصحاح 13: 3-10» وقال موسى للشعب اذكروا هذا اليوم الذي فيه خرجتم من مصر من بيت العبودية فإنّه بيد قوية أخرجكم الرب من هنا ولا يؤكل خمير.. اليوم أنتم خارجون في شهر أبيب، ويكون متى أدخلك الرب أرض الكنعانيين والحثيين والأموريين والحويين واليبوسيين التي حلف لآبائك أن يعطيك أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا أنّك تصنع هذه الخدمة في هذا الشهر.. سبعة أيام تأكل فطيرًا وفي اليوم السابع عيد للرب. فطير يؤكل السبعة الأيام ولا يرى عندك مختمر ولا يرى عندك خمير في جميع تخومك. وتخبر ابنك في ذلك اليوم قائلًا من أجل ما صنع إلى الرب حين أخرجني من مصر. ويكون لك علامة على يدك وتذكارًا بين عينيك لكي تكون شريعة الرب في فمك لأنّه بيد قوية أخرجك الرب من مصر. فتحفظ هذه الفريضة في وقتها من سنة إلى سنة.»
وهكذا نجد لم يرد في سفر الخروج ذكر عدم وضع الخمير في الخبز يوم الخروج لأنّ انتفاخ الخبز يعني الغرور والاستكبار، فالمعروف أنّ خبز الفطير يعود إلى أيام الخروج حيث استعجل بنو إسرائيل للخروج من مصر ولم ينتظروا اختمار العجين قبل سفرهم الى التيه وأخذوا معهم الخبز غير المختمر..
فهي إضافة مقصودة لتحسين صورة اليهود بصورة تخالف حقيقة الشخصية اليهودية، لنفي عنهم صفتي الغرور والاستكبار المعروفين بهما، وها هو المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي في كتابه «مشكلة اليهودية العالمية» يحلل الشخصية اليهودية وموقف اليهود من شعوب العالم وعدائهم للمسيحية؛ بأنّهم يروْن غيرهم أقل منهم منزلة وأنهّم الشعب المختار، أما شعوب العالم فهي في مركز منحط يطلقون على أفرادها كلمة «الأميين»، هم بتعبيرات الشاعر البريطانى كبلينج Kippling سلالات دنيا لا شريعة لها»، والأسئلة التي تطرح نفسها، هي:
ما الهدف من تحسين صورة اليهود ووصفهم بنبذ الغرور والاستكبار، وهم يتصفون بعكس هاتيْن الصفتيْن؟ ونجد حاخام المسلسل كرر كلمة «الطيبين» على الأجداد اليهود الذين خرجوا من مصر مع موسى عليه السلام مرتيْن بهدف غرس في أذهان المُتلقين صفة الطيبة عند اليهود، مع أنّ الله وصفهم بالظالمين والفاسقين؟
فهؤلاء الأجداد اليهود الذين وصفهم حاخام المسلسل بالطيبين:
1- هم الذين صنعوا في رحلة الخروج عجلًا من ذهب وعبدوه (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ) [الأعراف:148] 2. وهم الذين قال لهم موسى عليه السلام (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) وهذا يعني أنَّ لا وجود لليهود في فلسطين قبل ذلك.
2- وهم الذين رفضوا دخولها مخافة من الفلسطينيين «الكنعانيين» ووصفوهم بالجبارين. (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا).
3- بناءً عليه حُرِّمَت عليهم الأرض المقدسة تحريمًا أبديًا وعُوقِبوا بفرض التيه عليهم أربعين سنة: (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة: 26] فهذه العلامة سكتة لا ترتبط بالذي بعدها، بمعنى أنّها محرمة عليهم تحريمًا أبديًا وليس أربعين عامًا فترة التيه، وهذه القراءة مطابقة لما جاء في النسخة غير المحرّفة من التوراة، باعتراف حاخامات حركة ناطوري كارتا اليهودية، ومنهم الحاخام ديفيد وايس الذي كان الناطق الرسمي لحركة ناطوري كارتا؛ إذ استندوا على ما جاء في التّوراة غير المُحرّفة التي تُثبت أنّ لا صلة لليهود بفلسطين وليس لهم الحق في شبر منها، بل أنّه مُحرّم عليهم أن تطأ أقدامهم مدينة القدس، مُعبّرين عن ذلك بقولهم «إنّ إقامة دولة يهودية هي ضد الله» أي أنّ الله يُحرّم عليهم إقامة دولة يهودية، وقالوا: «ليس لليهود حق في شبر واحد من أرض فلسطين،» ويؤيد هذا شهادة عالم الآثار الإسرائيلي إسرائيل فلنكشتاين والذي يعمل في جامعة تل أبيب والمعروف بأبي الآثار بأنَّ لا علاقة للإسرائيليين بالقدس، ولا توجد أية آثار تدعم هذا الزعم». وكذلك قول رافاييل جرينبرج -وهو محاضر بجامعة تل أبيب- إنّه كان من المفترض أن تجد إسرائيل شيئًا حال واصلت الحفر لمدة ستة أسابيع غير أنّ الإسرائيليين يقومون بالحفر دون توقف في مدينة داود بحي سلوان بالقدس منذ عامين ولم يعثروا على شيء، ويؤيد قوله هذا أنّه لم يرد ذكر لمملكة داود في نصوص الشرق الأدنى القديم التي ترجع إلى الفترة نفسها [كارين أرمسترنج: القدس مدينة واحدة ثلاث عقائد، ص 92، ترجمة د. فاطمة نصر، ود. محمد عناني، طبعة سنة 1998، سطور، مصر]، كما يقرر فرانسيس نيوتن في كتابه» الانتداب على فلسطين» «أنَّه لا يوجد في فلسطين نقش واحد يمكن أن ينسب إلى المملكة اليهودية، فلقد فشلت اليهودية في أن تقدم أي أثر لداود وسليمان.»
وبعد كل هذا التزييف في الحقائق التاريخية الذي حواه مسلسل أم هارون كيف يزعم البعض أنّ ما يقدمه المسلسل هي الحقائق التاريخية بعينها؟