مرة أخرى تمد المملكة يدها بالخير للإخوة اليمنيين، وتسعى جاهدة لتوحيد صفوفهم، ومساعدتهم على تجاوز خلافاتهم، ليتفرغوا لمواجهة عدوهم المشترك المتمثل في المليشيات الحوثية العميلة، التي ارتضت أن تكون مخلبًا لنظام الملالي في إيران، يهاجمون بواسطته أرض العروبة.. هذه المرة ركزت الدبلوماسية السعودية على حث الأطراف اليمنية على تنفيذ اتفاق الرياض الذي تم توقيعه في الخامس من نوفمبر الماضي، والذي شكَّل خارطة طريق متكاملة لحل الأزمة، وتناول كافة أوجه الخلافات وأوجد لها الحلول الملائمة، لكن حالت ظروف مختلفة دون تنفيذه بالشكل المطلوب.
وتنطلق الرياض في حرصها على مد يد العون لليمنيين من نظرة راسخة وسياسة ثابتة، تقوم على أن اليمن هو العمق التاريخي للسعودية، وشعبيهما شقيقان يجمع بينهما الدين الخالد واللغة المشتركة وتربط بينهما أواصر القربى والمصير الواحد.. وهي علاقات تعود بتاريخها إلى عهود سحيقة.. لذلك لم يكن مستغربًا أن تبدي المملكة كل هذا الاهتمام بمصلحة اليمن، وتبذل كل تلك الجهود لأجل أن يعود للقيام بدوره القيادي الذي عرف به منذ الأزل.
أما النظام الإيراني المارق فلم يكن من قبيل المصادفة أن يختار اليمن لتنفيذ مؤامراته الهدامة، وفي سبيل تحقيق مخططه لم يتوانَ عن إثارة قضايا خلافية تجاوزتها الدول في العصر الحديث، واستطاع عبر تجنيد مليشيات الحوثيين أن يزرع الشقاق والخلافات بين أبناء الوطن الواحد، بعد أن أمد عملاءه بأدوات الموت والدمار، كل ذلك لتحقيق هدف واحد هو إضعاف الدول العربية وإفقادها مصادر قوتها ليسهل عليه فيما بعد ابتلاعها والسيطرة عليها.
ولاشك أن الحكومة الشرعية التي يقودها الرئيس عبدربه منصور هادي والمجلس الانتقالي الذي يتزعمه عيدروس الزبيدي يقفان في خندق واحد، هدفهما هو مواجهة المليشيات الانقلابية، وتحييد الخطر الإيراني، لذلك فإن على الجانبين إدراك أن أي خلاف بينهما يستفيد منه بشكل مباشر الطرف الذي يقف في خانة العمالة والارتزاق.. لذلك فإن المطلوب منهما في هذه الفترة هو غض الطرف عن خلافاتهما الصغيرة، والتسامي فوق تباين وجهات النظر، والتركيز على إنجاز المهمة التي ينتظرها الشعب اليمني بفارغ الصبر.
بعد الخلاص من كابوس الحوثي الذي جثم على صدور اليمنيين خلال السنوات الماضية يمكن للشرعية والمجلس الانتقالي الجلوس على طاولة المفاوضات للوصول إلى حلول ترضيهما معًا حول تفاصيل خلافاتهما، ولا شك إطلاقًا في أن دول التحالف العربي بقيادة المملكة والإمارات يمكنها القيام بدور الوسيط النزيه الذي يقرب بين مواقف الطرفين وتقودهما للاتفاق الذي يلبي تطلعاتهما ويحقق مصالح اليمن.
كذلك يجب الانتباه بشدة للدور التخريبي الذي تقوم به جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية ومساعيها المتواصلة لتوسيع شقة الخلاف بين الجانبين، وأبرز ما يحضر في هذا الصدد الحملة التي بدأتها قناة الجزيرة القطرية ضد المبادرة التي تقدمت بها المملكة، وهي حملة لا تهدف سوى لإحداث الفتنة بين اليمنيين، ولا غرابة في ذلك فالأدوار التحريضية غير مستغربة عليها، ولا مصلحة لديها في وصول اليمنيين لاتفاق يوحد جهودهم، فقد باتت ذراعًا إعلاميًا لا يخدم سوى المصالح الإيرانية في المنطقة.
كان اتفاق الرياض -باعتراف معظم دول العالم ومؤسساته الدولية- فرصة سانحة للوصول لحلول كافة النقاط التي كانت مثار خلاف بين اليمنيين خلال العقود الماضية، فلم يترك جانبًا إلا تطرق له، وجمع كافة ألوان الطيف السياسي في اليمن حول مائدة الحوار، كما ابتعدت الدبلوماسية السعودية عن التدخل المباشر في التفاوض، والتزمت بالحياد الإيجابي، واكتفت بتقريب وجهات النظر متى كان ذلك ضروريًا.. لذلك لم يكن مفاجئًا أن يتوصل الجميع لاتفاق شامل، بعد أن أظهر أبناء اليمن ما عرفوا به من حكمة بالغة.
المؤسف أنه في الوقت الذي كان يتوقع فيه الجميع أن يتفرغ اليمنيون لمواجهة عدوهم الرئيس، وتتكاتف جهودهم وتتوحد صفوفهم، بدأت جماعة الإخوان كعادتها في ممارسة أدوار العمالة التي عرفت بها على مدار تاريخها الأسود، فعملت بشتى الصور لإجهاض ما تم التوصل إليه من تفاهمات وإفراغه من مضمونه، ولتحقيق ذلك الهدف سخرت أبواقها الإعلامية المسعورة التي تفرغت لمهاجمة الاتفاق، وتأجيج الخلافات، ونشر الإشاعات، والحديث عن اتساع شقة الخلاف بين الطرفين.
الآن يقف اليمنيون أمام لحظة حاسمة من تاريخ بلادهم، وتبدو جميع الأطراف أمام مفترق طرق، إما أن تتوحد صفوفهم وتتكاتف كالبنيان المرصوص لهزيمة المشروع الإيراني، وبعدها يتفاوضون حول قضاياهم الخاصة، أو تستمر خلافاتهم التي تهدد مصير بلادهم، لكن عليهم إدراك أن بأيديهم التسامي فوق الصغائر والتركيز على القواسم المشتركة، فمهما حاول الآخرون مساعدتهم فإن القرار بأيديهم وحدهم، ولن تغفر الأجيال المقبلة لكل من تسبب في إلحاق الأذى بمستقبلها أو اضاع أحلامها، فذاكرة التاريخ لا تنسى ولا ترحم.