تداول المجتمعُ قبل شهور صورة القرار الذي أصدره مجمع اللغة العربية على الشبكة العالمية (رقم 20)، حول «حكم استعمال (مبروك) في معنى التهنئة»، ورغم أن «القرار [قد بدأ] باقتراح وبحث قدمهما بعض المجمعيين، داعيًا إلى إجازة هذا اللفظ» إلا أن الفتوى ذهبت إلى «منع استعمال هذا اللفظ، بناء على رأي الأغلبية»، لأنه لفظ «لا يعرف في الفصحى إلا بمعنى البروك، وأن اللفظ المشهور المستعمل في معنى التهنئة هو المباركة، من البركة التي هي الزيادة في الخير».
مع خالص التقدير والاحترام لجهود المجمع الرائعة، إلا أن المسألة ليست مسألة تصويت، ولا يمكن أن تكون كذلك.. فالقضية -في رأيي- لا تتعلق بالنحو أو الصرف أو بعلم المعجم بمفهومه القديم، بقدرِ ما تمس قضايا لسانية حديثة.. وقد أرفق رئيس المجمع الفذ ورقة تضم عددًا لا بأس به من الآراء (المسببَّة) التي تجيز استعمال لفظ (مبروك)، وأخرى تفضّل الاقتصار على التهنئة باللفظ (مبارك).
لا أفشي سرًا حين أقول: إن اللغة لا تحتكم لآراء المتخصصين، ولا ترضخ لنماذج معيارية محددة، فهي ليست طالبة في «فصل دراسي»، تتلقى القواعد وتسير عليها بكل طواعية، أعتقد أن هذا أمر متفق عليه بين اللغويين.. اللغة أكبر من علومها، ومن محاولات تقييدها.. كما أن فهمَ سلوكها، وتحديد سير تطورها أمرٌ صعب يكاد يكون متعذرًا.. يحاول المتخصصون جهدهم مشكورين، لتقنين السلوك اللغوي والسيطرة عليه، لكن اللغة تتفلت، وتخرج عن إطار القاعدة، يدعون هذا الخروج «شذوذًا» أحيانًا، وترفض اللغة هذا الحكم، لأنه يناقض طبيعتها.
كلمة (مبروك) -سواء كانت تهنئة أو عَلَمًا- مثالٌ جيد على هذا.. فقد أصبحت شائعة ومستخدمة منذ زمن، أصبحت واقعًا؛ هكذا أرادت اللغة، وهكذا قبلها اللسان العربي، ولم يعد الأمرُ أمرَ «صحة» أو «خطأ»، ولا تصويت بالقبول أو المنع.. ورغم أنها كما يقول المجمع تأتي من أصل مختلف (لا يشير إلى المباركة) إلا أن شيوعها أكسبها هذه الدلالة الجديدة وألصقها بها.. هذا أمر منتهٍ.. لابد للمتخصصين أن يتعاملوا معه بعقلانية وتفهّم.. فهل يعتقد المجمع أن المئات (وربما الآلاف وأكثر) من الذين يحملون هذا الاسم سيسارعون لتغيير أسمائهم لأن المجمع صوّت على ذلك؟
لاحظوا فقط أن الجذر (ب ر ك) يدل ضمن ما يدل على المكوث والقرار؛ «برك الرجل أي قرّ في مكانه»، و»برك الرزق أي ظل في مكانه ولم يذهب»، من هنا يكون استخدام (مبروك) ممكنًا، ومبررًا، حيث يشير إلى دلالة الدعاء ببقاء الرزق، الذي استحق التهنئة.. والقاعدة اللغوية تبنى على الاستخدام، وليس العكس.. لأن اللغة سماعية في أصلها، وستظل كذلك.. وحركة تطورها أمرٌ خارج عن سيطرة علمائها.
أعتقد أن هذا القرار يشير إلى إحدى مشاكل الذهنية اللغوية في بلادنا؛ أعني الذهنية التي قيّدت نفسها بالفكر اللغوي التراثي، ولم تستطع مواكبة التطورات المهمة في علم اللغة الحديث بمختلف مجالاته.. هذا -في رأيي- أسهم في تأخر الدرس اللغوي لدينا، وهو أحد العوامل التي تقف خلف الهوة بين المجتمع وأساتذة العربية؛ أعتقد أن الناس تثق في لغتها، لكنها لا تفهم «النحاة» و»الصرفيين»، ولا تثق في محاولاتهم للسيطرة على «اللغة».. سيستمر الناس في استخدام «مبروك».. لستُ أعلم إن كان هذا سيتغيّر مع الزمن... ما أعلمه يقينًا أن (ألفَ فتوى) مثل فتوى المجمَع لن تكون سببًا في هذا التغيير إن حدث.