مرة أخرى تكون المملكة محط أنظار العالم، ومثار اهتمام وكالات الأنباء ووسائل الإعلام العالمية، بسبب تصدرها للمشهد الدولي، عطفًا على ما تنظمه من فعاليات تختص بمناقشة الأوضاع الاقتصادية العالمية وتنسيق العمل المشترك من أجل انتعاش اقتصادي قوي ومستدام، وهو ما جعلها عضوًا فاعلاً في المجتمع الدولي، لا يكتفي فقط بمجرد المشاركة الفاعلة، بل يبحث عن صناعة الحدث وإيجاد الحلول.
هذه المرة استضافت العاصمة الرياض يوم السبت الماضي اجتماعًا افتراضيًا لوزراء مالية مجموعة دول العشرين التي تضم أكبر 20 دولة في العالم من ناحية القدرات الاقتصادية، وتترأس المملكة دورتها للعام الحالي، بهدف البحث عن وسائل لتحفيز الاقتصاد العالمي، وكيفية تجاوز مرحلة الركود الذي تسببت به جائحة كورونا (كوفيد 19) التي لا تزال تلحق الضرر بالاقتصاد، وتعاني معظم دول العالم من آثارها السلبية، إضافة إلى الاتفاق على آليات مشتركة لتخفيف عبء الديون على البلدان الفقيرة، وهو ما ركز عليه الاجتماع السابق للمجموعة والذي عقد في السادس والعشرين من مارس الماضي تحت رئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز.
هذه الجزئية تحديدًا تؤكد سعي المملكة لضمان عدم تركيز الدول الكبرى على مجرد البحث عن مصالحها الخاصة، وتوجيه جزءًا من اهتمامها لمساعدة الدول الفقيرة والأقل نموًا، مما يحقق أهم مبادئ التنمية المستدامة.
ورغم أهمية الحدث الذي وجد تغطية إعلامية واسعة، فإن هناك خبرًا آخر لم يقل عنه أهمية، وهو تسمية المملكة رسميًا للأستاذ محمد التويجري مرشحًا لها لمنصب مدير عام منظمة التجارة العالمية، وهو الترشيح الذي وجد ترحيبًا كبيرًا، عطفًا على ما تتمتع به المملكة من ثقل اقتصادي متزايد على مستوى العالم، ودور كبير تلعبه في استقرار الاقتصاد العالمي، استنادًا على كونها أكبر الدول المصدرة للنفط، وأكثر الوجهات الجاذبة للاستثمارات، إضافة إلى السيرة الذاتية المتميزة التي يتمتع بها التويجري، والنجاحات اللافتة التي حققها خلال مسيرته العملية، ومؤهلاته العلمية والأكاديمية الرفيعة.
ويعود الترحيب الذي قوبل به ترشيح التويجري إلى اتفاق شبه كامل بين الدول الكبرى في العالم على ضرورة استقطاب خبرات جديدة من شأنها أن تقود المنظمة التي تحكم عملية التجارة في العالم، والتطلع إلى أفكار غير تقليدية، وضخ مبادئ وأسس جديدة في شرايين الاقتصاد العالمي، تقوم على استشراف آراء بقية الدول غير الأوروبية والأميركية، لتحقيق مبادئ التنمية المستدامة التي تركز على ضمان عدم استئثار الدول المتقدمة لوحدها بفوائد الاقتصاد العالمي، وتوفير فرص نمو جديدة لبقية سكان العالم، والاستفادة من الفرص الاستثمارية والتجارية الكبرى التي تذخر بها قارتي آسيا وإفريقيا.
ولا يخفى على المتابعين لحركة الاقتصاد العالمي مقدار المشاكل المعقدة التي تعاني منها المنظمة منذ أمد بعيد، مثل المواجهة الأميركية الصينية وتداعياتها على استقرار المنظمة، وما تمارسه بعض الدول من خلط لتقلبات السياسة بمبادئ الاقتصاد، مما يعد إخلالا واضحًا بمبادئ التجارة العالمية، إضافة إلى الإخفاق في تحقيق الحرية التجارية، والمتاعب التي تعاني منها قطاعات أساسية مثل الزراعة، والتعقيدات التي تقف حائلا بين الازدهار المرجو للتجارة الإلكترونية. كل هذا إضافة إلى ما تركته أزمة كورونا من تداعيات عميقة على مختلف اقتصادات العالم دفع المدير العام للمنظمة، البرازيلي روبرتو أزيفيدو، إلى تقديم استقالته بصورة مفاجئة في مايو الماضي، قبل انتهاء فترة ولايته بعام، مما استوجب إقامة انتخابات مبكرة للمنظمة لاختيار مدير جديد.
الآن يقف العالم أمام تحد جديد، يستلزم البحث عن أفكار غير تقليدية، واختيار شخصية تتمتع باستقلالية ولو نسبية عن مراكز الصراع الاقتصادي العالمي لتقود المنظمة خلال الفترة المقبلة، وتحاول العبور بها إلى شواطئ الأمان، وهو الدور الذي يبدو جليًا أن المملكة قادرة على القيام به، عطفًا على ما تمتلكه من ثقل كبير وما تشهده من تنمية ضخمة وطفرة اقتصادية هائلة، وما تتمتع به من قبول واسع وسط مختلف الأطراف ذات الصلة.
بقي أخيرًا القول إن المملكة في هذا العهد الزاهر تواصل السير في طريق تثبيت مكانتها الرائدة على مستوى العالم، بخطوات ثابتة ووفق استراتيجية مدروسة، بعد أن استنهضت قدراتها، واستنفرت إمكانياتها الهائلة، ومثل هذا النجاح لا يمكن أن يتحقق بين عشية وضحاها، أو أن يأتي عن طريق الصدفة أو بضربة حظ، بل هو نتيجة حتمية للتخطيط الاستراتيجي طويل الأمد، والبناء على قواعد علمية حديثة تؤكد أن التخطيط السليم هو أول وأبرز مداخل النجاح وتحقيق الأهداف، وهو ما ركزت عليه رؤية المملكة 2030 التي حتمًا سوف تقود هذه البلاد المباركة إلى تحقيق مزيد من المكاسب في القريب العاجل بإذن الله.