لا أظن أن هناك ثقافة فتحت لها شوارع الإنترنت ذراعيها، واحتضنتها وسمّنتها مثلما فعلت مع ثقافة الشتائم!.. صحيح أن النسبة آخذة في التناقص (كمًّا) بعد أن ازداد الوعي الشعبي بفعل الإنترنت نفسه منذ العام ١٩٩٩، لكن الثقافة المرفوضة شرعاً وذوقاً مازالت تلقى قبولاً واستحساناً شعبوياً جارفاً، ويتحول (كبراؤها) الى أبطال شعبيين عند أدنى خلاف فكري حيث تمثل (الشتائم) احدى أدوات الترهيب والضغط الفكري؛ خصوصاً عند من لا يملكون الحجة المعرفية ولا القدرة على الرد.
لا تخلو ثقافة من ثقافات الشعوب من عادة (الشتائم) عند الغضب أو لدواعي السخرية أحياناً، فهي طبيعة أصيلة عند الإنسان كما يقول الخبراء، لكننا يجب أن نفرّق هنا بين شتائم (عفوية) تدخل ضمن تعريف لغو الحديث؛ وتعبّر في الغالب عن حالة تأفف هدفها التنفيس، وبين وقاحات تمثل عدواناً لفظياً يقصد منه الإيذاء والحط من كرامة المشتوم، فهذه تمثل مستوى من مستويات انحدار الوعي، كونها تمنع أية فرصة للحوار المثمر، حيث يتحول الحوار معها إلى معركة بأقذع الكلام القبيح. وشيوع هذا النوع من الخطاب السادي الفظ، والألفاظ السوقية في أي مجتمع هو إشارة لفقدان ذلك المجتمع لكثير من مبادئ احترام الإنسان.. الخطورة أن تراكم هذه النفايات من ألفاظ الكراهية ونفي الآخر، يتسبب مع الوقت في تعاظم نزعة عدوانية تجنح بالمجتمع كله نحو تحزبات وتصنيفات كارهة، ومتربصة ببعضها.
اللافت أن هذه الشتائم والتعبيرات الجارحة تكون موجهة بشكل أكبر نحو من يقدمون محتوىً جديداً، أو من يأتون بأفكار مبتكرة مخالفة للسائد، وهذا ما يؤكد حتمية وجود خلل نفسي عند هؤلاء الشتامين؛ فبدلا من النقد الهادف البناء، أو المدافعة بالحجج لاثبات خطأ الرأي ومحاولة تصويبه، ترى سيلاً جارفاً من التعليقات البذيئة التي لا تمت للنقد بصلة، بل تميل إلى التركيز على ظاهر الشخص، كانتقاد عرقه أو معتقده، أو حتى شكله ومظهره وطريقة كلامه، في محاولة لا أخلاقية لقتل صاحب الرأي نفسياً وتأليب الآخرين عليه.
ان انتشار هذا الكم الكبير من الشتائم والكراهية في التعليقات العمومية سواء بأسماء حقيقية أو مستعارة يشير الى خلل واضح في مفهومنا لحرية الرأي، فالبعض يعتقد أن عوالم الانترنت الافتراضية تمنحهم الحق في قول أي شيء، ونحو أي شخص، غير مفرقين بين الرأي والبذاءة.. وفي الغالب لا يعبر الخطاب الشاتم في الإنترنت عن شخصية شجاعة، خصوصًا إن جاء من شخصية (مقنعة)، بل هو تأكيد على ضعف الشخصية وخوفها من المواجهة، فضلاً عن أن ما تتقيأه من قذارات لا يعبر عن عجز نفسي وأخلاقي فقط، بل هو عجز معرفي في الأساس، وعدم قدرة على المواجهة.
قيام أي شخص بارتكاب هذه الجرائم باسمه الصريح، أو تحت اسم مستعار هو إعلان عن اضطرابه وعدم نضجه النفسي والفكري، وعن عجزه عن كبح نزعاته العدوانية تجاه الآخرين.. أو انها رغبة في زيادة شعبيته وتحقيق بطولات وهمية في صفوف من يرون في إيذاء الناس متعة ووسيلة للضحك.. وتلك كارثة أخرى!