يوهب البعض قدرات خاصة تمكنه من فهم ما يقع عليه بصره وتحليله؛ فتراه سرعان ما يؤوِّل الصورة المرئية ويضعها في خانتها المناسبة، فتغدو الأشياء المنظورة من قِبَله ذات معنى، ويُكيِّف الشكلَ المنظورَ ليَلحَق بشبيهه وِفق منظوره هو، ويذهب ليحوِّل المعلومات المتناثرة أمام ناظريه إلى خرائط مفاهيمية؛ حين يعمد (لاستخراج المفاهيم المتضمَّنة في الموضوع) ليجعلها تنتظم في شكل معين، أو يجعلها خرائط ذهنية حين يعمد (لتنظيم المعلومات الجاهزة) في شكل معين. وهناك من لديه قدرة على تحديد الاتجاهات وربطها بالمعالم الطبيعية، وهناك من لديه مهارة وَصْف مظاهر الطبيعة ومعالمها من نقطة معينة إلى نقطة أخرى مع أنه يفصل بينهما مئات الكيلومترات. هؤلاء جميعهم لا يمكن وصف حالاتهم تلك إلا بأنها قدرات ومواهب تميزهم عن غيرهم، وهناك من يُطلِق على هؤلاء مسمى (بصريين)؛ أي أنهم يجعلون من الرؤية البصرية وسيلَتَهم في تحليل المرئي، ومن ثَم يعمدون لإعادة تنظيمه وتركيبه ليسهل عليهم فهمه وتقديمه للآخرِين. يمكننا القول إنه يدخل في طائفة البصريين فئة لديها حس مختلف، يتمثل في إسقاطها بعض التشكيلات الطبيعية (الثابتة والمتحركة) على أشباهها ونظائرها من البشر والحيوانات والطيور والزواحف، وحتى على بعض التشكيلات الطبيعية المماثلة لها. هذه الظاهرة (ظاهرة إسقاط الأشكال والصور والمجسمات على أشكال وصور ومجسمات شبيهة لها) هي ما يُعرف بظاهرة (الباريدوليا) التي هي -بحسب جيهان محروس في موقع العلوم للعموم- مصطلح «مشتق من كلمتين يونانيتين بمعنى (الصورة الخاطئة)، وفسر العلماء الظاهرة باعتبارها نوعًا من (الأبوفونيا) أو (الإسقاط) الذي يربط من خلاله الإنسان بين عدة مشاهد منفصلة لا رابط يجمعها، ثم يعيد تشكيلها في معنى جديد لم يكن له وجود فِعليٌّ على أرض الواقع». هناك من يصف هذه الظاهرة بأنها حالة ذهنية (مرضيَّة)، وهناك من يرى أنها نشاط عقلي طبيعي، وحين التأمل في الظاهرة نجد أن لها ثلاث مراحل: الأولى- مجرد الربط (التقريبي) بين شكل وشبيهه؛ كأن يرى صخرة تشبه ملامح وجه الرجل، فيقول هذه الصخرة ملامحها كأنها وجه رجل (دون تخصيص أحد بعينه) ويتوقف عند هذا الحد. الثانية- أن يعمد الرائي لتأويل الشبه من منطلَقٍ ما (ويخصص)؛ فيقول مثلاً إن هذا الوجه الذي يبدو في السحاب هو وجه مَلَكٍ من الملائكة، أو أن وجهَ زعيمٍ ما هو الذي ظهر على صفحة القمر. الأخيرة- ألا يكون هناك وجه مشابه ولا صورة مشابهة أصلاً، لا على السحاب ولا على القمر ولا على غيرهما؛ وإنما أوحى خيال الرائي له بذلك، فتَأوَّل رؤيةَ وجهٍ أو صورة. وكما ذكرتُ فأكثر المختصين يرون أن هذه الظاهرة حالة ذهنية مرضية، لكنهم لم يُفصِّلوا في المسألة؛ وعلى ذلك قد يُظَن أن الظاهرة (بمجملها) تعبِّر عن حالة مرضية، والصواب أن هذه الظاهرة (في مرحلتها الأولى) ليست مرضية بقدر ما هي قدرة وموهبة؛ فهي تصف الواقع وتقربه إلى شبيهه، والأكثرية تمارسها -وأنا من حزب الباريدوليا في مرحلتها الأولى- ولذا ترى (جيهان محروس) أنه كان يُنظر قديمًا إلى الباريدوليا «باعتبارها أحد أعراض مرض الذهان، لكنها اليوم مجرد نزعة إنسانية طبيعية»، وأظن توصيف الباريدوليا بأنها (نزعة إنسانية طبيعية) ينطبق على المرحلة الأولى وحدها، خلاف المرحلتَين (الثانية والثالثة) اللتين تستدعيان منطلقات معينة، وتجنحان إلى الخيال، وأظنهما هما المعنيتان بحديث المختصِّين، حينما وصفوا الظاهرة -مجملة دون تفصيل- بأنها حالة ذهنية مرضية.