إن الأستاذ والإعلامي الجزائري المميز محمد بوعزارة، واحد من أهم الكتاب الإعلاميين الجزائريين. فهو من القلة القليلة التي اشتغلت بالتأليف، ولم تكتفِ بالمقالات، بل جعلت منه رهاناً تواصلياً حقيقياً. له سنوياً كتاب يجمل مقالاته التي نشرها على مدار العام. على الرغم من تنوع الموضوعات، إلا أنها تظل محكومة بخيط أساسي ورفيع: الجزائر في تحولاتها العميقة. يتابع كل شيء لا بالنظرة التقديسية ولكن بالعين المتفحصة والناقدة.
نقف في هذه القراءة على كتابه الأخير قصتي مع الكتابة والصحافة/ حكايتي مع السياسة الذي صدر عن منشورات بغدادي التي درجت في السنوات الأخيرة على المتابعة الأدبية والفنية بنشر النصوص التي لها تماس بما يقع في البلاد من تحولات، على الصعيد الثقافي بالمعنى العام. يمكننا أن نطلق على هذا الكتاب تسمية: سيرة كتابة. استعاد فيها محمد بوعزارة تجربته مع منجزه الثقافي الذي اختاره ليعبر عن الكاتب والمثقف فيه، أكثر من السياسي الارتجالي. من هنا، فنحن أمام تجربة ثقافية مميزة، بالمعنى الشمولي لكلمة ثقافة. فقد امتهن صاحب هذه السيرة الغنية، الصحافة والكتابة والسياسة الثقافية والاجتماعية، وهو من القلة القليلة التي دونت الصغيرة والكبيرة، بحاسة نقدية مميزة، لم ترض بعضاً من سدنة السياسة من الذين حولوا مسارات الثورة، لاتجاه الفساد والنهب المنظم.
كان رهانه دوماً جزائر قوية، حية وديناميكية، لهذا كتب في كل القضايا الحساسة، من القضايا الحزبية المتعلقة بجبهة التحرير، وصراعات مجموعات الضغط، إلى القضايا الوطنية الكبيرة المتعلقة بمصير البلاد التي كانت تقف على الحافة، إلى القضايا الدولية التي كانت فيها الجزائر طرفاً حيوياً مؤثراً، عندما كانت سياستها الخارجية واحدة من علامات قوتها. ليس غريباً عن الكاتب والإعلامي محمد بوعزارة، فتجربته الميدانية الحية أهلته لذلك بامتياز. فقد تولى مناصب إعلامية حساسة في وسائل الاتصال مما جعله على تماس حقيقي بالتحولات الكبرى وبالخطابات السياسية المهيمنة. فقد كان مديراً للمحطة الجهوية للتلفزيون بالجنوب الجزائري، بورقلة، وكان قريباً من المؤسسة الرسمية التي حاول جاهدا تثقيفها وتوسيع أفقها، ولكنه لم يفلح دائماً لأنها ترسخت مع الزمن في المخيال السلطوي، وكثرت مصالح المستعاشين عليها وبها، فأصبح من الصعب تغييرها. كما ترأس إدارة مجلة الشاشة الصغيرة في منتصف التسعينيات، وظل مداوماً في جريدة «صوت الأحرار» بمقالات ثابتة، غير مهادنة. كما كتب في جرائد عربية كثيرة. وظل حريصاً على إصدار مقالاته وجمعها في شكل كتب، لأنه يدرك جيداً أنه من حق الأجيال القادمة أن تتعرف على حقيقة ما مسَّ الوطن في صعوده ونزوله. فالجرائد مقابر لما نكتب. فهي مرتبطة باللحظة الراهنة، بينما الكتاب ديمومة. مواقفه في كتاباته وخطاباته، شاهدة على جرأته، في البرلمان أولاً من خلال دورتين قضاهما فيه مناضلاً ومقاوماً، قبل أن يستلمه «الغاشي» و«الصعاليك» بحسب تعبير الكاتب. المشكلة الكبيرة هي أن هذا «الغاشي» هو صنيعة صيرورة تاريخية اشترك فيها من أدار الشأن السياسي منذ بداية الاستقلال، وأن «الصعاليك» أشرف بكثير من سدنة السياسات العصبوية. لم يسرقوا للسرقة، ولكن لإعادة توزيع الثروة بطريقتهم. ولم يكونوا يؤمنون بالعصبية القبلية إذ تشكلوا من مختلف القبائل العربية. ونظراً لوصول الفساد والانهيار الأخلاقي في السياسة إلى السقف، قدم محمد بوعزارة استقالته من حزب جبهة التحرير في سنة 2019، الذي بدأ سقوطه الحر منذ 2012، كما يقول الكاتب. لم يكن قادراً على التحمل لأنه سليل فئة أخرى ومدرسة ثقافية لا علاقة لها بمنطق الحاضر. فقد استعاد بعضاً من سيرهم العطرة، الشيخ محمد الصالح الصديق، محمد الطاهر فضلاء، عبد الحميد مهري، بوعلام بن حمودة، صالح قوجيل وغيرهم كثيرون الذي كانت خياراتهم وطنية بالدرجة الأولى. لم يخل الكتاب من الكثير من اللحظات الساخرة (قصة حراث بن جدو مع وزير الإعلام) التي كانت من حين لآخر تخفف من الجدية والصرامة النقدية التي غابت فيها أحيانا الأسماء، وتمنيت لو ذُكرت، ليستفيد الرأي العام ويتعرف على الحقائق التي غابت عنه.
قصتي مع الكتابة والصحافة/ حكايتي مع السياسة، سيرة ثقافية مفتوحة وشجاعة، جديرة بالتأمل والمتابعة والمساءلة. يشكل اليوم الأستاذ محمد بوعزارة واحداً من الأصوات الحية التي حاولت، وتحاول تثقيف السياسة وإخراجها من دائرة اليقينيات السياسية المريضة والذهاب بها نحو المساءلة ومعترك الحياة، بدل تسييس الثقافة التي لم يربح من ورائها، لا المجتمع، ولا الثقافة ولا حتى السياسة.