«العرفجة»، ظاهرة كونية عجيبة، تشبه «الصعلكة»، غير أن من خلفها لا علاقة له بابن الورد، ولا ببنته.. بل هو أحمد العرفج، الكائن الذي لا يقل عجائبية عن ظاهرته.. تصادفونه في كل مكان.. أليس كذلك؟! لا أستغرب أن يتسلل إلى أحد أحلامي، ليعاتبني: «وينك يا كسول»..؟!
يمكن القول إن هناك قبيلة اسمها «أحمد العرفج»: تقفز صورته من الشاشات باستمرار وهو -بكشخته التي تنتمي للسبعينات- يبتسم ويثير الجدل حول كل شيء تقريباً؛ حول القضايا الثقافية، والمواقف الاجتماعية، والرؤى الفكرية السائدة... كل شيء تقريباً.. هنالك عرفج آخر في منصات الإعلام الجديد، ولعلكم تصادفونه أكثر مما تصادفون أمهاتكم، لا غرابة في ذلك.. فهو يقسّم جسمه في جسوم كثيرة، بعضها تحتل تويتر، وبعضها تهاجم السناب شات، حيث ينافس أعتى الفاشنستات.
يفعل العرفج أشياء كثيرة؛ يحث الناس على القراءة، يطاردهم بأفكاره التشجيعية حتى في مناماتهم، يشدد على الرياضة ويشجع الاتحاد.. متفائل دوماً، يدعو الناس للضحك، وللأمل.. يراه البعض «ثقيل الطينة»، ويقول آخرون: يا زينه.!!
بالنسبة لي عرفت -منذ قابلته قبل أكثر من عقدين- أنه ظاهرة خاصة؛ كنت أراه في صوالين جدة، وفي صحيفة (المدينة) التي جمعتنا كثيراً، كان -ولعله لا يزال- يكتب في كل أسبوع مقالات لا نستطيع حصرها، وكان أهل الثلوثية ينكشونه في كل قضية، يحاولون استفزازه قد الإمكان، لكنه كان دائماً يبتسم -مثل طفلٍ بريءٍ، يخفي قنبلة نووية تحت قبّعته-.
قبل خمس سنوات، أصدر العرفج كتاباً وفّر لنا بعض الإجابات حول ألغاز ظاهرة «العرفجة».. ذلك هو كتاب (المهمل من ذكريات طالب تنبلْ)، وأصبح الكتاب أيقونة للضحك والحكايات العجيبة، رغم أن أكثر جملة ترد فيه هي: (سأدوّن هذه القصة في كتاب مستقل!!). يعترف العرفج أن علاقته بالدراسة حرجة وحساسة..!! ففي كل مرة يتخرج من مرحلة تقع مصيبة كونية (جهيمان، ثم صدام، ثم بن لادن، والله يستر).
يدعو العرفج نفسه أقدمَ يتيم في الدنيا، لا أعلم من ضحك عليه بهذه المعلومة؟! أظن أن جحا سبقه في اليتم، وفي أشياء أخرى.. ولد في بريدة، ورحل صغيراً إلى الرياض ليسكن في «حي العطايف».. تخيلوا..!!
وفي المدينة كانت مدرسته الأولى تسمى «الناصرية» نسبة إلى جمال عبدالناصر، ويبدو أن روح الرئيس العربي الكبير كانت تحفّه، فقد دخل المدرسة مع قريب مستمع لم يصل للسن القانونية... نجح القريب الصغير، ورسب العرفج.. وفي نهاية العام الخامس وزعت أمه الهدايا على الجيران، رغم أنه كان الراسب الوحيد في الفصل..!! أكثرُ المهارات التي طورها «السهم الملتهب» كما يدعو العرفج نفسه -واهماً- في المدرسة هي تقليد صوت حجاب بن نحيت، كان ينشدها في الطابور الصباحي.. (كانت -بلا شك- أياماً سوداء.. قاحلة..!!).
في الرس -سامح الله الرس- وجد العرفج نفسه، فأصبح مجتهداً، يحب القراءة، يتجوّل بدبّابٍ أحمر! ويسميه الناسُ «الحجازي»... حينها بدأ الكتابة، ونشرَ في عكاظ، بواسطة من إفلاطون ربما، أو من أبي دلامة.. بدأ العرفج الجامعة في قسم الاقتصاد الإسلامي.. (يعني صاحبنا من يومه اقتصادي) لكنه رسب في كل ما يمكن لطالبٍ أن يرسب فيه، فانتقل لقسم اللغة العربية.. خسره الاقتصاد وتورطت به اللغة.. (ولا اعتراض على قدر الله).. راسلَ صاحبُنا مرة الشاعر إبراهيم العواجي، فردّ عليه الأخير، (وكان حينها وكيلاً لوزارة الداخلية)، انتفخ العرفج غروراً (ولا يزال ينتفخ).. كان العساكر في نقاط التفتيش يطلبون من العرفج الرخصةَ، فيخرج لهم رسالةَ العواجي..!! وقد كان العواجي خلف التحاقه بالداخلية بعد ذلك بسنين.. أنهى الماجستير في أم القرى، لكنه لم يتلقّ الشهادة، لأنه رفض تسميع أجزاء القرآن المطلوبة هناك!!، وفي بريطانيا انتهت رحلته (العجيبة) مع الدراسة، حيث حصل على الدكتوراه.. بعد أن (سدَح) تسعة مشرفين!! أعتقد أن هذا رقم قياسي، لا يليق إلا برجلٍ سمين القلب والقد... مثل العرفج.
في لندن كان العرفج أشبهَ بكرةِ ثلج تدحرجت من الهملايا، ولا تزال.. كان الشباب يتحلقون حوله؛ يستمعون لحكاياته، تثيرهم روحه المرحة، وبعضهم يضع يده على صلعته، ليتأكد أنه كائن حقيقي، وليس غولاً إغريقياً.. في أمسية شعرية جمعتني به وبعدنان الصائغ، قال الصائغ إن العرفج مثل الـ»حوت»، وكنتُ -بأمانة- أفكّر في الفقمة.. هكذا بدا لي صديقي العرفج دوماً: فقمةَ بحر مسالمة..!
اليوم لم يعد كذلك.. فقد أصبح رشيقاً، ممشوقَ القوام، (يا غيرةَ الصبايا..!!). يمشي العرفج حول أسوارِ الدنيا كلها، يختار أسوارَ المقابر أحياناً، ويتقرّب منه الناس، يعتقدون -واهمين- أنه من بقية الصالحين، وأن بركته لاحقة، رغم أنها ماحقة... هكذا يرونه، طاقةً إيجابية، وصديقاً لا غنى عنه.. ويراه أصدقاؤه الحقيقيون.. شراً لذيذاً.. لا بد منه!!