Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

حسين بافقيه بانتظار من "عبروا النهر مرتين"..!

A A
«لا يعبر الرجلُ النهرَ مرتين».. هذه العبارة الشهيرة للفيلسوف الإغريقي هرقليطس أوُّلِتْ تأويلاتٍ مختلفة، ومن تلك التأويلات أن الإنسان لا يعيش حياته مرتين.. وهي العبارة التي تقف خلف عنوان كتاب ناقدنا الجميل حسين بافقيه، أعني كتاب (عبروا النهر مرتين).. وفكرة العنوان كما يظهر من محتوى الكتاب، أن الذين يدونون سيَرهم الذاتية ينجحون بطريقة ما في عبور النهر مرتين، حين يمرون على حياتهم مرتين.

وكما هي كتب بافقيه، يتميز هذا الكتاب بذلك الأسلوب الأخاذ الذي اختطه لنفسه في الكتابة، ذلك الأسلوب الذي يمكن أن أطلق عليه (الأصيل المعاصر)، الذي يشدك إليه مبلغه من الفصاحة والبيان.. لكن هذا الثراء اللغوي المبهج ليس كل شيء، إذ يتميز الكتاب أيضاً بتقديمه وجبة مفيدة وممتعة في الوقت ذاته، فهو مفعم بالمعرفة والفكر النقدي المتزن، بالإضافة إلى جمال أسلوبه الذي يسلبك حتى النهاية.

يضم الكتاب مجموعة من المقالات والقراءات النقدية التي نشرت سابقاً في الصحف والمجلات، وتناولت بالقراءة كتباً للسيرة الذاتية أصدرها من قبل علماء وسياسيين وأدباء ودبلوماسيين ونقاد من مشارب مختلفة.

وبافقيه ناقد منظم، تجده -في تناوله لهذه الكتب- يصفُ ويصنّف ويحلل ويحكم.. وهو يقدّم قراءاته النقدية، يثبتُ حقيقةَ وجود فنّ السيرة في التراث العربي، كما يفرّق بين منطلقات كتابة السيرة غربياً وعربياً، ويتحدث بإسهاب عن دوافع كتابة السيرة، وأنواعها، وعن خصائصها البنيوية.. وهو ناقد حساس كذلك، يستخلص الفكرة الرئيسة من الكتاب، ويبني عليها عمله النقدي (فيبني التحليل اعتماداً على هذه الفكرة)، من هنا تجده يركز على تأثير عمل نزار عبيد مدني (الدبلوماسي) على سمة التحفظ التي وسمتْ سيرته الذاتية (دبلوماسي من طيبة)، وكذلك ينطلق من مشكلة خفوت الذاتية في سيرة الوزير محمد الرشيد رحمه الله (مسيرتي مع الحياة)، وينظر لقضية الحياد التي طالما ألقت بظلالها على سيرة الدكتور عبدالمحسن القحطاني (بين منزلتين)، ويتلمّس نزعة السخرية وأثرها الإيجابي في سيرة أحمد العرفج التعليمية (المهمل من ذكريات طالبٍ تنبل)، بينما يركز على سؤال البحث عن هوية في سيرة عبدالرحمن السدحان (قطرات من سحائب الذكرى).. وكلنا يعلم أن بافقيه يمكن أن يكون ناقداً لاذعاً متى ما أراد، وفي الكتاب كثيرٌ مما يدلل على ذلك من أمثلة، على أني سأكتفي هنا بمقاله الذي تناول فيه سيرةَ مثقف من مثقفينا، اختار لها مؤلفُها عنوان: (حتى لا أنسى)، أما مقال بافقيه فكان عنوانه: «ليته نسي»!!

ولعل الملاحظة الوحيدة التي يمكن أن أشير إليها هنا هي اعتماد الكتاب على مقولات نقدية معينة، وتكرارها -أكثر من اللازم- بين طيات الكتاب، وإن كان نشر المقالات في أماكن وتواريخ مختلفة يبرر هذا التكرار، فلست أجد ما يقنع من تكرارها في الكتاب المنشور.. وهذا لا يأخذ من قيمة الكتاب بطبيعة الحال، فهو -كما قلت سابقاً- رحلة شيقة مع الأدب والنقد، ويقدم كمّاً من المعلومات التي لم تمر على كثيرٍ منا؛ من ذلك مثلاً أن كتاب (فن السيرة) لإحسان عباس كان أول الكتب العربية النقدية التي تناولت السيرة باعتباره نوعاً أدبياً، وأن نبيل شعث -السياسي الفلسطيني الشهير- كان يريد أن يدرس القانون لكن أباه رفض بحجة أن الفلسطيني بلا وطن، فكيف له أن يدرس القانون..!! وأن بافقيه أكبر من أحمد العرفج بسنة، لكنه مثل صاحبه: رسب في الصف الأول والرابع..!!

في مقال بعنوان (ماء الذاكرة)، يربط بافقيه بين الذاكرة والماء ببراعة وذكاء؛ فيقول: «واستعارة الماء للذكريات استعارة أصيلة في تاريخ الحياة»، ثم ينطلق لتضفير الأدلة حول رأيه هذا، فيثبت من عناوين كتب السيرة كل ما له علاقة بثنائية «الماء والذاكرة»: (نهر السنين وفقاً لتعبير محمد الجابري، والبئر الأولى للطنطاوي، وسحائب السدحان، وعبارة حمد الجاسر: «أعصر ذاكرتي»، بالإضافة لدلالة الحفْر في عنوان سيرة عبدالملك مرتاض، وربط مطاردة الذكريات الهاربة بالركض خلف السراب عند مصطفى عبدالغني... الخ).

هكذا، يجوب الكِتاب في هذا العالم العجيب الجذاب، أعني عالم الذكريات، ولا يفوت مؤلفه بين الحين والآخر أن يصعد لقمة من القمم، ليأتينا منها بقبس ما، مثلما فعل حين اقتبس عبارة ماركيز: «الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هي ما يتذكره، وكيف يتذكره ليرويَه»، وكان قبلها قد اغترف لنا من بحر البحتري العظيم في معنى قريب قوله:

«عيشٌ لنا بالأبرقَيْنِ تأبَّدتْ

أيَّامهُ وتجدَّدتْ ذكراهُ

والعيشُ ما فارقتهُ فذكرتهُ

لهفاً وليسَ العيشُ ما تنساهُ..»

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store