جدل كبير شهدته وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية حول الآثار السالبة التي يخلفها وقف خدمات المتعثرين عن تسديد الأقساط أو الغرامات، وما إذا كان من حق شركات التقسيط إيقاع عقوبات تتعدى عملاءها المتعثرين لتشمل عائلاتهم وأبناءهم ومن هم على كفالتهم، وبالتالي تتعدد المخالفات على من تطبق بحقهم تلك العقوبة، ولكن هذه المرة تكون المخالفات لأسباب خارجة عن إرادتهم واختيارهم، لأن وقف الخدمات يعني ببساطة تجميد صلاحيات الدخول إلى حساباتهم على كافة برامج الإجراءات الحكومية مثل الجوازات ووزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية وغيرهما. وقد فطنت وزارة العدل في وقت سابق لتلك الأضرار وقامت بإجراء تعديلات عديدة على لائحتها التنفيذية، وهو ما أشاد به كثير من العاملين في الحقل القانوني.
ونظرة سريعة للآثار السالبة لوقف الخدمات توضح بجلاء حجم المآسي المترتبة عليها، والتي تتجاوز المستهدفين من الإجراء لتشمل عائلاتهم وأبناءهم، فكم من طفل لم يتمكن من الالتحاق بمؤسسات التعليم لأن والده لم يستطع استخراج أو تجديد هويته، وكم من خريج لم يتمكن من الحصول على الوظيفة التي يستحقها لذات السبب، بل إن أصحاب الحقوق أنفسهم تضرروا من تلك القرارات التي طالبوا بإصدارها لأن الدائنين لن يعود بإمكانهم التصرف في ممتلكاتهم مثل السيارات والعقارات لتسديد الديون التي عليهم.
هناك أيضاً آثار اجتماعية سالبة في غاية الأهمية ينبغي التنبه لها، وتتمثل في زيادة حالات الطلاق لأن كثيراً من الأزواج لن يعود بإمكانهم صرف مستحقاتهم ورواتبهم أو سحب أموالهم من البنوك، وبالتالي يفقدون القدرة على توفير احتياجات عائلاتهم. كذلك فإن المرضى الذين هم بحاجة إلى العلاج لن يستطيعوا مراجعة المستشفيات إذا كانت هوياتهم منتهية الصلاحية.
كذلك فإن كثيراً من الطلاب المبتعثين الذين أرسلتهم الدولة على حسابها إلى الدول الغربية والتحقوا بأرقى الجامعات العالمية ليواصلوا مسيرة تعليمهم العالي ويعودوا لخدمة وطنهم، لم يتمكن بعضهم من العودة إلى الدولة لمواصلة التعليم بعد قضاء الإجازة مع ذويهم، بسبب معاناتهم من وقف الخدمات الذي حال دون حصولهم على التأشيرات المطلوبة، ولا يختلف اثنان في ما يمثله ذلك من إضاعة للموارد وتعطيل للتنمية وهدر للمال العام.
لكل ما سبق فإن عقوبة وقف الخدمات -رغم أنها كانت بهدف إرجاع الحقوق ورد المظالم- إلا أن كثيراً من شركات التقسيط استغلتها كنوع من العقوبات الجماعية التي لا تفرق بين مذنب وبريء.
ربما يتساءل البعض عن كيفية استرداد شركات التقسيط لأموالها بحق المتعثرين عن السداد، وهذا حق أصيل لها ولا خلاف عليه، لكن هناك طرق أخرى لتحصيل تلك الحقوق بدون إلحاق الأذى بالآخرين، ويمكن ذلك عن طريق توظيف المزيد من متحصلي الديون الذين استغنت عنهم بعض الشركات وآثرت اللجوء إلى خيار المطالبة بوقف الخدمات، ولا شك أن تحصيل الشركات لمستحقاتها وأقساطها هو من صميم واجباتها، فإذا ما قصرت في ذلك أو تهاونت فلا ينبغي أن يدفع الآخرون ثمن ذلك التقصير والتهاون.
أما الذين اعتادوا سلب أموال الغير، والتهرب من تسديد التزاماتهم فهؤلاء يمكن إيقافهم عند حدودهم عبر اللجوء إلى القضاء، فإذا ما ثبت تعمدهم لعدم القيام بواجباتهم يمكن حينها للقاضي أن يتخذ بحقهم الإجراء الرادع، لكن لا ينبغي تعميم الأحكام على الجميع لأن كثيراً ممن أوقفت خدماتهم أثبتوا بالأدلة انتظامهم في تسديد جزء كبير من الأقساط، لكنهم تعثروا بعد ذلك بسبب ظروف قاهرة خارجة عن إرادتهم، وحاولوا إيجاد مخارج لأزماتهم، لكن إيقاف خدماتهم حد من قدرتهم على التصرف.
حتى إذا كانت هناك حاجة في بعض الأحيان إلى وقف خدمات الذين يماطلون في إرجاع حقوق الغير فإن ذلك ينبغي أن يكون في أضيق نطاق، وفي يد القضاء وحده، وبعد استيفاء شروط محددة، ووضع حد معين للمبالغ المستحقة، وثبت تهربهم عن الإيفاء بما عليهم، لأن كثيراً ممن أوقفت خدماتهم في السابق أو تعرضوا للحبس كانوا مطالبين بتسديد مبالغ مالية زهيدة لا تستحق تلك العقوبة.
بلادنا تشهد في الوقت الحالي نهضة تشريعية كبيرة تهدف لتعديل القوانين وتحديث المنظومة القضائية، ومن المؤكد أن الجهات المختصة تضع في حساباتها تصحيح هذه العقوبة وترشيد استخدامها، لاسيما في هذا العهد الميمون الذي ننعم فيه بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ويعضده ولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله- حيث تولي المملكة عناية فائقة بتعزيز حقوق الإنسان ورفع الضرر عنه وتهيئة الأجواء أمام الجميع للإسهام في نهضة هذه البلاد المباركة.